الجمعة، يونيو 02، 2006

إغاثة الأمة وكشف الغمة

مقال من التراث اعجبني ( اغاثة الامة وكشف الغمة
إغاثة الأمة وكشف الغمة
د. محمد السعدني
لما كانت السنة السبعون بعد المائة الثالثة من الهجرة اشتعلت خراسان بالفتنة وغلا السعر واخيفت السبل وكثر الارجاف القيل والقال وساءت الظنون وضجت العامة.
ولأنه كان شابا حسن الخلق طيب المنبت فقد عافت نفسه بلايا طلاب الدنيا فآثر ان ينخرط مع واحد من شيوخ الصوفية أولئك الذين رضوا من هذه الدنيا بكسرة يابسة وخرقة بالية عله يعلمه ويؤدبه.
ظل علي هذا الحال ينهل من العلم والتبصر حتي أعطاه الشيخ عهده ودفع به إلي غيره يلتمس عنده بعض علوم اللغة والمنطق وأحكام القرآن.
وأتم صاحبنا ذلك أيضا وعندها أرشده شيخه إلي أن يذهب إلي تقي صالح في سامراء ليكمل معه طريق السالكين إلي الله. أسر له باسم الشيخ وذهب صاحبنا بلاد تشيل وبلا تحط وعلي مشارف المدينة وجد رجلا في خيمة صغيرة كان قوي البنية طويلا عريضا ذا لحية كثيفة فسأله الشاب عله يدله علي طريق الشيخ الصالح الذي نذر نفسه ليكون في خدمته وطاعته ليعلمه ويؤدبه ويدله علي طريق السالكين إلي الله.
وهنا دارت في رأس عريض المنكبين أن ينتهز الفرصة يستغل جهد ذلك الشاب وعلمه. فقال له ها انت بين يدي بغيتك، فقل لي هل تأجرني ­ أي تعمل عندي ­ ثلاث قروء ­ سنوات ­ لتوفي عدتك واعلمك فإن اكملتها خمس فمن عندك. وافق الشاب حسنا النية طيب المنبت.
كان يقضي يومه في رعي الغنم وحلب الماشية وغزل الصوف ونسجه وحرث الأرض وزرعها ذلك انها كانت علي مشارف نهر كبير وكان يعد لصاحبنا مأكله وملبسه ويرتب فرشه وحاجاته وكان كلما سأله عملا اجابه وطاوعه. غير انه لاحظ ان اخانا لا يعلمه شيئا ولا يقدم له علما بل علي العكس هو الذي ينهل من علمه ومعارفه ويستزيد منه. ضاق الفتي الطيب بذلك الحال فسأله لماذا لا تعلمني وتؤدبني ياشيخنا الكريم وأنا الذي أتفاني في خدمتك وطاعتك.
فأجابه بخبث: يا بني لاتغرنك المظاهر فطريقنا الي علام الغيوب خفي الالطاف يقين قلب لا علم ظاهر، وأنا أعلمك باشغالك وأؤدبك بارهاق حالك، ففي جهدك واجتهادك حكمة وفي سيرك معي ندوة وعبرة وفي قربك مني طاعة وحظوة واني لأنقل اليك عهد السالكين بالنظرة وحال المقربين بالصبر والحرمان والندرة فاصبر واحتسب واعمل واجتهد واسجد واقترب، فاذا ما قل سؤالك وزاد انشغالك تحسن من الحال الي المحال مآلك وكان كما السالكين العارفين حالك فتأتيك دون ان تسألني الاشارة وتري بام عينك مع بزوغ الشمس العلامة والبشارة، فإذا بك بلا اجنحة في الهواء تطير وبلا زورق ولا مجداف علي الماء تسير.
فلا تشغلن بالك بالسؤال والتفكير فانه جل جلاله له الملك بيده الخير وهو علي كل شيء قدير. فلما انتهت عدته وأتم عامه الخامس اعاد سؤاله لصاحبنا المستغل فطلب منه ان يزيد علي عدته خمسة شهور وخمسة اسابيع فخمسة أيام.
بعدها ولانه كان مخاتلا خداعا لاشيخا صادقا قرر الخلاص من الفتي الطيب بان قال له الآن جاءتني الاشارة وها هي ذي العلامة، اصعد إلي هذه النخلة العالية وقل يا علام الغيوب يا صاحب الملك والملكوت أعني علي الوصول إلي طريقك ثم القي بنفسك من فوق النخلة فإذا بك تطير إلي حيث يريدك الله.
كان ايمان الفتي بالله وقدرته ومشيئته اكبر من قدرته علي تكذيب من حسبه شيخا صالحا وكان حسن خلقه ومنبته باعثا لتصديق كذبه وخديعته، فإذا بالفتي يصعد النخلة وصاحبنا.يرقبه في سعادة ظانا انها ساعة الخلاص قد حانت فهو اما واقع علي الصخرة تحت النخلة فتدق عنقه ويموت أو غارق في النهر لا محالة. لكن لصدمته ودهشته فقد طار عقله وارتعد جسده وهو يشاهد الفتي وقد طار بالفعل وإذا به ينزل علي سطح النهر فيمشي فوق مياهه بمشيئة الله. بهت المحتال الكاذب وكانت نهايته بالفضيحة والجرسة فقد انتشر خبر الفتي الصالح بين الناس الذين اخبروه انه افني سنواته في خدمة دعي عاطل عن كل موهبة وسألوه كيف فعلت هذه المعجزات فقال لهم أنا لم افعل انما هي ارادة الله.
ألم تعرفوا قصة سيدنا ابراهيم وهم يعدون حوله الحطب لحرقه جاءه سيدنا جبريل وقال اطلب يا ابراهيم العون من ربك وكانت كلماته عليه السلام: انه يسمع ويري، فعلمه بحالي يغنيه عن سؤالي، فشملته عناية الله سبحانه وتعالي وكانت النار بردا وسلاما علي ابراهيم. أليس هو القادر سبحانه الذي اعطي معجزته لسيدنا عيسي عليه السلام فصار يحيي الموتي ويبريء يشفي الاكمه الاعمي والابرص بإذن الله، اما انا فأعاهدكم ونفسي ألا احاول ذلك مرة أخري، وبر وعده واقام بين الناس يعلمهم ويأكل من جهد يده ،ذلك انه تعلم الدرس واستوعب عبرته. لقد ايقن الفتي ان معجزته ليست في ذاتها انما هي فتح من الله ليؤكد عنده قيمة العمل والاخلاص فيه.
وكما تري عزيزي القاريء هي قصة رمزية وعلي غرار ما جاء في كتاب الامتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي قدمتها بتصرف لشباب الجامعة عندما سألني احدهم الرأي فيمن يجد ويجتهد ويخلص ويبدع ويستغله الرؤساء في العمل ويسرقون جهده، أليس في ذلك مدعاة للركون والقعود والتبلد؟فاستدعيت هذه القصة من التراث دافعا للعمل والاجتهاد والاخلاص فعلي الله قصد السبيل وهو وحده الذي يجزي المخلصين. فنحن جميعا خلفاء الله في أرضه وما علينا إلا العمل وحسن الخلافة بصرف النظر عما نحصله من ورائه ففي العمل وحده اغاثة الأمة وكشف الغمة أو هكذا يقول شيخنا تقي الدين احمد بن علي المقريزي.

ليست هناك تعليقات: