الأربعاء، ديسمبر 02، 2015

تكملة رؤية "النموذج الاداري المجتمعي" الاسترشادي

الفصل الثاني
(السلــــــــــــوك المجتمعـــــــــــي)

علم النفس الاجتماعي:
 هو فرع من فروع علم النفس يدرس السلوك الاجتماعي للفرد والجماعة، كاستجابات لمثيرات اجتماعية، وهدفه بناء مجتمع أفضل قائم على فهم سلوك الفرد والجماعة.
علم الاجتماع:
 هو "علم يهتم بدراسة الحياة الاجتماعية للانسان وظواهرها المجتمعية", وهو "علم دراسة التفاعل الاجتماعية".
للمجتمع تعريفات متعددة تختلف باختلاف العلم الذي يصفها والهدف من التعريف, وقد عرفها العديد من علماء الاجتماع وعلماء النفس الاجتماعي والعلوم الاجتماعية بصفة عامة, كل بحسب مشكلته البحثية التي يدور حولها, ولا يوجد اختلاف كبير يذكر, في تعريف المجتمع, ولا اختلاف علي معاملة المجتمع كوحدة او تنظيم واحد, يتأثر سلوكه الاعتباري ومنتجه باختلاف سلوك اعضائه.
هذه التعريفات تنطبق علي اي تجمع بشري مؤقت او دائم, سواء كان اسرة او مؤسسة او قبيلة او جمعية او دولة...الخ, الا انها تعريفات عامة لا يستهدف خصائص معينة للمجتمع, بينما ما نبحث عنه في هذه الرؤية هو "مجتمع الدولة المنظم" والذي هو بالطبع صورة من صور المجتمع في كل العلوم.

س: ما هو مجتمع الدولة المنظم؟
تعريف مجتمع الدولة المنظم: "هو تنظيم اداري منفتح لمجموعة من الافراد, مرتبطة بحيز محدد من الارض, تربطهم علاقة تعايش دائم, وفق عقد اجتماعي محدد عن طريق الاتفاق العام, يضمن امنهم وحفظ حقوقهم, ويسعي لتطورهم, ويعمل علي مساعدتهم في تحقيق اهدافهم الشخصية, بما لا يتعارض مع اهداف المجتمع العامة او حقوق الاخرين, وتشكل السمات الشخصية لافراده "الشخصية المجتمعية الاعتبارية للدولة" .
ورغم طول هذا التعريف المقترح, الا انني اعتقده شامل لتوصيف المجتمع المعروف او المحدد بالدولة , والدولة التي ما هي الا تنظيم اداري يحدده المجتمع, ذلك التوصيف الذي يشكل منظومة يمكن ان تنهار بانهيار احد اركانها "مجتمع" او "دولة".
وينشاء عن هذا التعريف علاقة شرطية بين "المجتمع" في العلوم الاجتماعية وخصائصه, وبين "الدولة" كتنظيم اداري في العلوم الادارية,[[[ كانت المجتمعات فيما سبق لا تعرف نظام الدولة ولذا لم تكن تستخدم مفهوم الادارة ولكنها كانت تستخدم مفهوم القيادة, وكانت لا تعي مفهوم المنافسة وانما اعتمدت علاقاتها علي مفهوم الصراع , لغياب االعدالة التي كانت بيد "القائد" او "الزعيم"]]]
وسنتناول في هذا الفصل ماهية المجتمع وخصائصه.
س: ما هو تعريف المجتمع: هو "مجموعة بشرية تعيش في منطقة مساحية معينة", وهو "مجموعة أفراد تربطهم علاقة ما معروفة لديهم و لها أثر دائم أو مؤقت في حياتهم و في علاقاتهم مع بعض وتستهدف التعايش السلمي الامن".
ومن التعريف يمكن ان نستنتج ان المجتمع ما هو الا مجموعة من السلوك البشري المرتبط بعلاقة سلوكية تفاعلية خاضعة لشروط ما ومرتبطة ببيئة مكانية ما, تستهدف منفعة وسعادة الجميع (المجتمع) وتدفع وتصد الالم والضرر, ويمكن ان نستنتج ايضا ان الرابط بين افراد المجتمع اقوي من الرابط السلوكي بين كل فرد وذاته, فاذا حاول اي فرد مخالفت هذا الرابط الاجتماعي, فاما ان ينفصل عنه في حالة نجاحة واما ان يفشل لقوة هذا الرابط, وبالتالي نشأت لدينا رابطة سلوكية جديدة يتفاعل معها السلوك الانساني الذي تحدثنا عنه في الفصل السابق يتأثر بها بقوة "مجتمع" ويؤثر فيها بقوة "فرد", وقد اشرنا لهذه الرابطة كعقيدة اجتماعية تحكم سلوك الانسان.
ويمكن القول بان "المجتمع" هو كيان اعتباري حي, له سلوك يمكن دراسته وتفهمه, فما هي طبيعة هذا "السلوك المجتمعي"؟
لقد عرفنا من قبل ما هو السلوك الذاتي وما هو السلوك الاجتماعي, وعرفنا ان السلوك الاجتماعي, هو ذلك السلوك الذي يمارسة الانسان تحت ضغط القيود الاجتماعية لمحدد وضابط له, وبالتالي فالسلوك الاجتماعي هو سلوك الانسان نفسه, اما "السلوك المجتمعي" فهو سلوك الكيان المجتمعي ككل في ممارسة استجابة او تأثير في البيئة المحيطة او المجتمعات الاخري, وبمعني اخر هو محصلة سلوك كل افرد المجتمع كل بحسب سلوكه و دوره الذي يمارسه وتعاونهم في تحقيق هدف المجتمع , فالمجتمع كا الانسان بالضبط له عقل الا انه عقل جمعي وله ارادة الا انها ارادة جمعية وله اهداف الا انها اهداف اجتماعية, وله جسد واعضاء وقدرة, تمثلها افراد المجتمع كل يودي مهمة بعينها, وان اختلفت اشكال تلك الاعضاء واعدادها الا انه يجب ان تتوافق مع الارادة العقلية الجمعية لتؤدي وظائفها , وتتكامل لاداء كل سلوك مستهدف, كما انه السلوك المجتمعي يسعي الي النمو والتطور والتعلم واكتساب الخبرات.
وبالتالي فالسلوك المجتمعي, كل نشاط اداري او قيادي او انساني يصدر من المجتمع, ويتدرج من اللاارادي الي الارادي, ومن البسيط الي المركب واعقد انواعه هو الامن القومي والانفتاح علي المجتمعات الاخري.
لقد اقتبسنا تعريف السلوك الانساني والبسناه للسلوك المجتمعي, لنتمكن من معاملته نموذجيا علي انه (كيان واحد مستقل ومتكامل وعاقل), ومن ثم نتتبع تكوين السلوك المجتمعي من لحظة ولادته, لنستنتج ميكانيزم نشاطه الطبيعي, بصرف النظر عن ظواهرة وتصنيفاته وحالاته الخاصة .
اذن لنتصور معا كيف بدأ السلوك المجتمعي بافتراض مثال تقريبي:
1. اجتمع عدد من السلوك الانساني (بشر) مختلفي الاهداف الشخصية, في مساحة من الارض, وبدلا من الصراع البدائي علي ملكيتها او الانتفاع بها, اتفقوا علي استغلالها مجتمعين لمنع اراقة الدماء.
2. انتقل السلوك الانساني لافراد هذه المجموعة, الي مرحلة تحديد بنود وشروط الاتفاق "المنطقية" الفطرية, التي يتوقع ان تمكنهم من التعايش السلمي والانتفاع من الارض, فكانت اول خطوات تحديد هذه البنود هي التعرف علي اهداف الجميع من هذا التعايش, فكان عدد الاهداف 100 مختلف لكل الافراد, وجد منهم 60 هدف مقبول من الجميع علي سبيل المثال, و40 هدف متفرقين مختلف عليهم ومنهم 10 هدف مرفوضين قطعيا من البعض, فاتفق الحضور علي ان تكون الاهداف ال60 هم اهداف المجتمع الاساسية التي يسعي لتحقيقها ويتعاون الجميع عليها ويساهم كل فرد بنصيب متساوي فيهم, وان 30 هدف هي اهداف شخصية مسموح بها, وتحقيقها مسؤلية الفرد الشخصية ومتاحة للجميع, ولا يحق لاي فرد مطالبة المجتمع بتحقيقها له ولا يحق للغير الاعتراض عليها, وان هناك 10 اهداف لا يجوز السعي لتحقيقهم بالنسبة للجميع ويجرم ويعاقب من يحاول تحقيقهم, وانتهي الاتفاق علي اهداف "المجتمع", متضمنة بالطبع ضمان السلام والامن والعدل عند الاختلاف, فهم اساس "التجمع".
3. انتقل الحضور لتحديد الواجبات, فكان اول شرط للجميع العدالة في توزيع الواجبات, فقاموا بالرجوع للاهداف وتحديد المجهود اليومي والشهري والخبرات والاعمال المختلفة لتحقيق كل الاهداف,وتحديد سعر ساعة العمل لكل مهنة, ومن ثم قاموا بالتعرف علي القدرات السلوكية المختلفة لجميع الافرد, وتخصيص واجب لكل فرد متساوي لواجب الفرد الاخر ومقدر بسعر ساعة العمل لكل مهنة, ومن اعترض علي وظيفته سئل عن اي قدرات اخري, فلم يجد فرضي, ومن اعترض علي اجمالي الدخل, سئل عن خبرات مهنة اخري فلم يجد فرضي, حتي رضي الجميع.
4. انتقل الجميع لتحديد الحقوق, فاتفق الجميع علي توزيع 70% من العائد بالتساوي علي الجميع, والاحتفاظ ب 30% من العائد لتطوير المجتمع.
5. انتقلوا بعد ذلك لتحديد نظام حل النزاعات والخلافات والدفاع ضد اي عدائيات تصادفهم, فالتفتوا الي ضرورة تحديد نظام القيادة والزعامة والتقاضي, فقرروا منطقيا الفصل بين "القائد" و "القاضي", بشرط الا يحق لمن تولي القضاء ان يتولي القيادة, حتي لا يكون منصبه وسيلة للقيادة, واشترطوا ان يكون القاضي احكمهم واعدلهم, فاختبروا من يري في نفسه القدرة في مسائل العدل والحكمة , حتي فاز افضل المتطوعين فتولي القضاء , ووضعوا نظام قيادي يختبر قدرات القوة للمتطوعين, ينتج عنه خمسة مرشحين ,علي ان يتم الاقتراع عليه من الجميع, ومن يحصل علي اعلي اصوات يكون القائد الذي له قوة وسلطة المجتمع لمدة سنة, لتنتقل القيادة للجميع, علي ان يختار معاون له, ولا يحق لهما التعدي علي حقوق اي فرد او استثنائه من واجباته, او تعديل بنود الاتفاق, لتنحصر مهمته القيادية في التنظيم والتخطيط للعمل ورقابة المخالفين وردعهم ورد الحقوق التي يحكم بها القاضي.
6. وهكذا ولد لدينا مجتمع, ولد بسلوك فطري (اتفاق تعاون وتكامل بين اعضائه) يسعي للتعايش والسعادة والسلام والاستقرار ودرء الالم, بدأ هذا المجتمع بالتعرض لمثير (الم الصراع والاختلاف) فاستجاب بالاتفاق, ومن ثم بدأ هذا المجتمع في استكشاف اعضائه وجسده والتعرف علي قدراتها ووظائفها, مستمتعا بالهدوء والسلام وبين الحين والاخر يلوح الاختلاف والصراع في الافق فيستعيد الاستجابة بالاتفاق, وحتي اكتملت روابط سلوكه المجتمع باكتمال "العقد المجتمعي" الذي احدث توازن عقلي حركي بين جميع الاعضاء, واصبح المجتمع قادرة علي التفاعل وممارسة النشاط الواحد المتكامل واكتساب خبرات جديدة لتطوير خبرته.
7. وهذا السلوك المجتمعي لا يتعارض ولا يوقف السلوك الذاتي او الاجتماعي, بل يدعمه ويدفعه ويساعده علي النمو, لانه ينمو معه.
8. يبدأ المجتمع في ممارسة سلوكه المجتمعي , ويدور في فلك السلوك , وتظهر مثيرات داخلية مختلفة (حاجات الافراد , مكونات البيئة وثرواتها, الم الاختلاف والصراع بين الافراد, نمو قدرات فرد من الافراد... الخ من الظواهر التي تمثل مثير للمجتمع) تستدعي الاستجابة المجتمعية , وينتج عن الاستجابة خبرات سلوكية مجتمعية تتضمن قيم لمفردات الظاهرة, تسجل في ذاكرة القائد والمجتمع, وتتكرر المثيرات وتتطور الخبرات وتتبدل وتتعدل القيم, الا انها هذه المرة مع التطور المعرفي تسجل في سجلات تصف الخبرة وتقيمها, في نفس الوقت الذي يريد فيه ارادية اثارة البيئة المحيطة بفعل استكشافي او تجريبي او استخدام خبراته السابقة كمثير للبيئة ومكوناتها, وينتظر الاستجابة , فيكتسب خبرات جديدة وروابط جديدة وقيم جديدة, منها السلبية ومنها الايجابية, والتي تسجل ايضا في سجلات المجتمع كذاكرة.
9. ونتيجة لتكرار ممارسة السلوك المجتمعي وتأكيد الخبرات والقيم السلوكية, تتكون مبادئ بعضها يتفق والعقد الاجتماعي, وبعضها يعدل في العقد الاجتماعي, الذي يكون قد تقادم بمرور الزمن, وحتي يستقر العقد الاجتماعي والذي يمثل "العقيدة المجتمعية" باتجاهات اربعة وهم "المجتمعية" و "السياسية" و"العلمية" و "الاقتصادية".
10. انه سيناريو سلوكي بسيط لا يختلف عن السيناريو السلوكي الانساني, ويمكن ان نحدد له شخصية كما نحدد للسلوك الانساني شخصية, الا انه يتضمن مكونات مستقلة عاقلة قادرة علي التغيير السريع والمستمر في سلوكها وقدراتها وقادرة علي مخالفة اوامر العقل المجتمعي ولا يربطها بالوحدة المجتمعية الا عقد وقوانين ضبط وسيطرة, بينما في السلوك الانساني فمكوناته (اعضاء الجسد) لا تملك القدرة علي مخالفة الاوامر العقلية, وهذا الاختلاف وان كان يظهر بسيطا للوهلة الاولي الا انه شديد التعقد, وفي نفس الوقت ليس من المستحيل علاجه. والتأمل في هذا الاختلاف يثير سؤال عقلي منطقي بسيط "كيف نطابق نموذج السلوك الفردي علي نموذج السلوك المجتمعي, في وجود متغير مستقل عن نظام التحكم السلوكي ذو الارادة والقدرة علي الاختلاف؟" (كيف تتحكم في توجيه سيارة للامام اذا كانت كل عجلة منفصلة عن عجلة القيادة؟!) (كيف نجعل مكونات الوحدة المجتمعية كمكونات الجسد الواحد؟), واجابة السؤال التي اعتقدها منطقية وبسيطة هي توجيه وتدريب واجبار اعضاء المجتمع علي طاعة "العقل المجتمعي",عن طريق, استبدال نظام التحكم والضبط العقلي العصبي لسلوك ووظائف الاعضاء (الجسد) الموجود في نموذج السلوك الفردي, بنظام تحكم وضبط وسيطرة خارجي علي سلوك ووظائف الاعضاء (الافراد) في نموذج السلوك المجتمعي (اي قوانين تستهدف سعادة وهدوء الاعضاء والمكونات الجسد , بعلاقة لا تفترض قدرة اعضاء الجسد علي تحمل الالم دون الحاح في الشكوي وخروج عن حد الاعتدال في وقت لا يعمل فيه العقل علي علاج مشكلتها!), الا ان هذه الاجابة الافتراضية قد تنجح في حالة سلوك الافراد الارادي علي المخالفة, فماذا عن المخالفة اللاارادية والفشل في اداء الوظائف والسلوك الاجتماعي؟, وقد يكون علاج تلك الاخيرة في التعليم والتدريب والمتابعة والاشراف التي تتضمنها وظائف القيادة لتقليل اثرها, بالطبع تلك الاسئلة وهذه الاجابات ساذجة او رومانسية وان كانت صحيحة فهي في حقيقة الامر عمليات تنظيمية وادارية معقدة مئات المرات ومركبة ولا يمكن اختصارها في كلمتين (فهي تعني الانتقال من نظام ضبط وسيطرة فطري الي نظام ضبط وسيطرة تنظيمي), الا ان الغرض من تبسيطها هنا هو اظهار التشابة والاختلاف بين مصطلح "سلوك" في حالة السلوك الفردي والمجتمعي , والاشارة الي الاليات المنطقية لعلاج هذا الفرق ليكون "المجتمع" وحدة واحدة ذاتية الارادة والعقل وله شخصية, وبالتالي يمكن للعقل والقارئ قبول نظرية ايجاد نموذج امثل له, ليس بمفهوم المدينة فاضلة والاحلام الوردية كما يظن البعض, فالنموذج السلوكي الامثل الذي نشير اليه ونفترضه, لا يعني ان صاحبه, هو الافضل او الاقوي او الاغني او الاسعد او الغير قابل للفشل.

في السيناريو السلوكي السابق, عرضنا صورة بدائية بسيطة لتكوين السلوك المجتمعي ووضحنا ان نموذجه يتشابه مع السلوك الانساني الفردي مع وجود بعض الاختلافات التي تستدعي من المجتمع, تنظيم بعض الاليات البديلة للقيام بوظائف اساسية فطرية في السلوك الفردي حتي يتسم السلوك المجتمعي بالوحدة والتكامل والتوافق والانضباط الذاتي وتكون له شخصية (وهذا لا يتعارض مع وجود الفشل والنجاح والخير والشر), وهذا ما سنحاول التعرض له (اليات تنظيم المجتمع) بقدر من تفاصيل الرؤية لاحقا.
وما ينطبق علي السلوك الفردي ينطبق علي السلوك المجتمعي, فهو متعلم ويعتمد علي اكتساب الخبرات, واكتساب الخبرات اما يكون عشوائيا او يكون مخطط ومنظم, وباختلاف طريقة اكتساب الخبرات تختلف الشخصية وتتدرج من شخصية عشوائية صدفية لا يمكن توقع محتوي خبراتها (سلبي او ايجابي) ولا توقع نجاح سلوكها المستقبلي, او شخصية متعلمة معلوم محتوي خبراتها ويمكن توقع سلوكها المستقبلي, ليكون محور التعليم والتعلم ركيزة ومحدد رئيسي لاي شخصية فردية او مجتمعية .
ونستنتج نظريا مما سبق ان "السلوك المجتمعي هو متوسط محصلة سلوك افراده وخبراتهم", وان "الشخصية المجتمعية هي متوسط الصفات الشخصية الشائعة في افراد المجتمع".
وسواء فضل البعض تسميتها الثقافة المجتمعية او الشخصية المجتمعية , فليست محل النقد والاختلاف هنا فالعبرة بما يستوعبه القارئ من مدلول المصطلحات وليس بدقة اللغة التي لا انكر اهميتها, وان كنت افضل تسميتها بالشخصية والسلوك المجتمعي لانها اكثر تجرد من الثقافة المجتمعية, فالثقافة تشير الي كل الخبرات المعرفية الموجودة في المجتمع والتي يمكن ان تتحول لسلوك وان لم تتحول الي سلوك واقع, فاذا اعتبرنا ان كل معرفة "ثقافة" وكل ثقافة "سلوك" نكون افسدنا الروابط الصحيحة بينهم , بالضبط وكأننا خلطنا بين السلوك الذاتي والسلوك الاجتماعي والسلوك المجتمعي, رغم الفارق الكبير والجوهري بينهم.
وكما اشرنا من قبل ان هناك اليات تنظيمية اساسية عامة تمكنا من التعامل مع المجتمع كوحدة سلوكية, مرتبطة بضبط السلوك وتشكيله, ولا علاقة لها بالظواهر والفروق الفردية الخاصة, سواء بالنسبة للاشخاص اوالبيئية, فهي اليات تنظيمية اساسية موجودة في كل المجتمعات بمنطقها الفطري, سواء كان مجتمع غني او فقير او قوي او ضعيف او متخلف او متحضر...الخ, وبالتالي فحديثنا في هذا الفصل مرتبط بالسلوك وليس بالادارة التي ياتي دورها التنظيمي بعد ذلك في علاج الفروق الفردية والظواهر وتعديل القيم والخبرات والاتجاهات, مستهدفة حسن ادارة الموارد والرفاهية والافضل علي طول الخط .
سنستعرض فيما يلي بعض المفاهيم المجتمعية:

اولا: الادوار الاجتماعية:
الفرد هو المكون الرئيسي والعام لاي مجتمع, ويتصف سلوك الفرد بصفة عامة, بالغرائزية والذاتية والانانية واتباع هوى النفس وحب البقاء والدفاعية والنزعة للمنفعة الاجتماعية , كما يتصف بالقدرة علي التحكم والسيطرة وضبط سلوكه اراديا وتوجيهه, والاختيار والتفضيل بين البدائل المدركة, وفق لخبراته المكتسبة من التفاعل الاجتماعي. ولا يمكن لاي مجتمع تغافل صفات السلوك الانساني, والا الغي الرقابة والقوانين وساد السلام والامن العالم المجتمعي. 
الفرد هو اساس المجتمع, ولا يمكن للمجتمع تحقيق اهدافه, الا بتفاعل وتعاون ومساعدة افراده بعضها البعض والمجتمع يستمد قوته وقدراته وحركته وحياته من اللافراد, فهم مصادر قوتة ويده العاملة وخبرته, وحركة افراد المجتمع وانتاجهم وتأثيرهم فيه وتأثرهم به تتم من خلال مواقف "التفاعل المجتمعي" المختلفة, والتي يكون فيها لكل فرد "دور" محدد بقواعد ومعايير تهدف الي نمو الافراد والمجتمع معا, ونتيجة لهذا التفاعل يتوقع المجتمع من كل فرد القيام بعمل او مهمة او وظيفة او دور, للمشاركة في تحقيق هذا الهدف المجتمعي, ويحدد المجتمع لجميع افراده السلوك المناسب والمتوقع لاداء هذا الدور, في شكل واجبات يلتزم الفرد بادائها وفق لمعايير الاداء المتوقع من المجتمع, بصرف النظر عن دوافعه ورغباته الشخصية وسلوكه الذاتي, ويعتبر اي سلوك للافراد مخالف, في حالة عدم الالتزام بالمعايير او اهمالها وعدم تحمل مسؤليتها بضبط سلوكه الفردي معها.
يحدد المجتمع شروط هذه "الادور الاجتماعية" وطبيعتها وعيوبها ومميزاتها المتوقعة, ويوفر لافراده جميع البيانات والمساعدات اللازمة للتوقع الصحيح ونجاح هذا الدور الاجتماعي, والذي يترتب علي نجاحة, نمو ونجاح المجتمع ككل وتحقيق الاهداف المجتمعية, كلما زاد عدد الافراد الناجحين والمحققين لتوقعات المجتمع.
وفي سبيل تحقيق النجاح في ممارسة الافراد لادوارهم الاجتماعية, يقوم المجتمع بتاهيل افراده بجميع الوسائل الممكنة قبل اداء الدور, واكسابهم الخبرات السلوكية اللازمة لممارسة الدور الاجتماعي, وتقديم المساعدات اللازمة اثناء القيام بالدور وحل مشاكله, وتقديم التقدير المناسب بعد النجاح لتعزيز الدافعية علي ممارسة السلوك الاجتماعي واعلاء قيمته النفعية فوق السلوك الذاتي, ويعد التجاوز عن التقصيير من قبل الافراد في القيام بهذه الادوار, مساهمة في زيادة قوى الجذب السلبية للمجتمع في طريق الضعف والتفكك ووالمقامرة بتحقيق الاهداف المجتمعية.
وبصرف النظر عن قيمة هذا الدور في المجتمع, سواء رئيسي او ثانوي, الا انه ان كان مخطط فله هدف يتكامل مع غيره من الادوار ويؤدي وظيفة ومهمة, وان لم يكن مخطط فله اثر وخبرة, ان كانت سلبية يجب علاجها قبل ان تتحول بالتقليد الي ظاهرة, وان كانت ايجابية يجب تعزيزها واستغلالها مجتمعيا, وفي كل الاحوال ان لم يكتشف ويعالج تقصير الافراد في ممارسة سلوكهم الاجتماعي, كان هناك خلل وتقصير في القيادة المجتمعية, الا ان تلك المشكلة التنظيمية يعالجها ويبحث فيها علم الادارة والذي سنتعرض له فيما بعد.
يعتبر الدور الاجتماعي هو الشغل الشاغل للفرد والمجتمع فعليه تترتب الواجبات التي يحاسب عليها اجتماعيا, وكلما زاد عدد الادوار والوظائف والمهام زادت الواجبات والالتزامات, وارتفعت مكانة الفرد في المجتمع, وزاد تأثيره فيه, بالسلب والايجاب, وفق لما يحققه من نجاح في ممارساته لتلك الادوار, وكلما زاد معدل النجاح للفرد في ادواره الاجتماعية, كلما زاد معدل تأكيد قيمة تحمله للمسؤلية وزاد انتفاعة من المجتمع, علي اساس تبادل المنفعة المشترك, والعكس بالطبع صحيح.
ويمكن تقسيم الادوار الاجتماعية حسب الزمان والمكان والقيمة والتأثير الاجتماعي, الي اقسام متعددة نظر للكم الهائل من انواع تلك الادوار, الا ان التقسيم وفق لاثر الدور علي الاهداف المجتمعية والاهداف الفردية, قد يكون اوضح واقرب للتصور والمنفعة.
ويمكن تقسيم الادوار الاجتماعية, الي ادوار رئيسية وهي تتصف بالبعد الزمني والترتيب والاولوية و تحقق اهداف اجتمعية اساسية وادوار ثانوية تتصف بالبعد الزمني وتحقق اهداف اجتماعية اساسية وذاتية ثانوية, وادوار مصاحبة تحقق اهداف ذاتية
1. الادوار الاجتماعية الرئيسية:
وطبقا للتسلسل الزمنى بعد اكتمال نمو السلوك الارادي, يكون منها (الابن – الطالب – العامل – الزوج - الزوجة – الاب - الام – الرئيس – العالم - القائد – المرجع – المستشار- القاضي - المتقاعد - الكهل والعجوز – الواصي- الكفيل – الشاهد ...الخ) وهذه الادوار تتصف بالتأثير المباشر في المجتمع, سواء علي المدي القريب او المدي البعيد, ولذا يسعي المجتمع لتوفير كافة الامكانيات والوسائل المتاحة للتخطيط لها وتاهيل الافراد لها واعدادهم واكسابهم جميع الخبرات اللازمة لممارستها بنجاح ومساعداتهم, ويفرض المجتمع علي هذا الادوار, نظام رقابي مستمر ونشط وحازم وفعال, بهدف منع الافراد من الاهمال في ممارستها او عدم الالتزام بالمعايير السلوكية للدور, او الفشل, لحماية المجتمع من الاثار السلبية المباشرة الناتجة من الفشل,ويؤدي الفشل في السيطرة علي سلوك الافراد عند ممارسة هذه الادوار, الي اصابة المجتمع بالظواهر السلوكية الغير مرغوية, والتي ان استمرت ممارستها مدة طويلة تحولت الي مرض سلوكي, يغير ويعدل من "الشخصية الاجتماعية" .
والدور الرئيسي, هو دور يمارسه الفرد اساسا لتحقيق اهدافه الشخصية ومنفعته, ووفق لاختياره الارادي, وحسب درجة عضويته في المجتمع (سنتحدث عن العضوية الاجتماعية فيما بعد), الا انه دور اجتماعي مؤثر تأثير مباشر علي المجتمع, وكلما ارتقي الفرد به وطوره وحقق اعلي مستوي في الاداء, والمحافظة علي الواجبات وتحمل المسؤلية, حقق اكبر قدر ممكن من المنفعة والاهداف الشخصية لنفسه, وفي نفس الوقت ساهم في رقي المجتمع وتحقيق اهدافه باقل تكلفة ومجهود ووقت,كانت ستهلك في الرقابة وعلاج الاخطاء.
وكقاعدة عامة,في غيابة الرقابة, اذا تعارضت الاهداف الفردية والاجتماعية, لاي سبب من الاسباب, تكون الغلبة لاهداف الفرد الشخصية, الا في حالة وجود عقيدة اجتماعية قوية تسيطر علي سلوك الفرد الذاتي, ولان "العقيدة الانسانية" كامنة غير ظاهر او مراقبة او معيارية, ولا يعلم محتواها الا الشخص نفسه, فلا يملك المجتمع الاعتماد عليها كاداة لضبط السلوك, وان كانت توضع في الحسبان لتقويتها لتقليل خسائرها وانحرافها وليس لرقابة السلوك وضبطه.
ولاهمية الادوار الاجتماعية في التنظيم المجتمعي, يجب علي المجتمع عدم السماح للافراد بممارسة الادوار الاجتماعية, الا بعد التأكد من تأهيلهم واكتسابهم للخبرة المطلوبة لممارسة الدور, باي صورة من صورالاختبار والتقييم, لانه بطبيعة الحال ووفق للطبيعة الفردانية وحب الذات التي لا يمكن ضمان تحكم تحكم الفرد ذاتيا فيهما, قد يلجاء الفرد تلقائيا لممارسة الدور الاجتماعي, بدافعية ذاتية لتحقيق رغباته واهدافه الشخصية, حتي وان كان يعلم بعدم اكتسابه المهاره المطلوبة وعدم قدرته علي ممارسة الدور, علي امل اكتساب هذه المهارة مع الزمن بالممارسة والاحتكاك والتجريب, وعلي امل عدم اكتشاف امره, او بدافع المغامرة وحساب قدرته الشخصية علي تحمل الخسائر والنتائج المترتبه علي فشله في الدور, دون تقدير للخسائر الاجتماعية, التي تكون اكبر بكثير وغير منظورة او محسوبة ماديا علي المدي القريب في معظم الاحوال, فعلي سبيل المثال, ان حالة فشل الزواج في اسرة واحدة في المجتمع, قد تؤدي الي اضافة عدد من الابناء حرموا من الرعاية الاسرية المستقرة, ويتأثر سلوكهم الشخصي سلبيا, ويفقدوا التنشئة الاجتماعية الصحيحة الازم لنمو سلوكهم, ومن ثم ينتج عنها بعد 20 سنة ثلاثة اسر, تفشل في ممارسة الادوار الاجتماعية لعدم التأهيل, اذا لم يقم المجتمع باعادة تأهيلهم, التي تتطلب مجهود وتكلفة ووقت مضاف للاعباء المجتمعية, وفي نفس الوقت قد تؤدى هذا الفشل الي اهمال الزوج والزوجة لادوارهم الاجتماعية الاخري, لبعض الوقت حتي تمر الازمة, وقد تؤدي الي العداء والصراع بين عائلتين, وانشغال عدد من رجال الامن والقضاء لحل هذا النزاع, وقد تتعرض المصالح العامة للتعطيل والاهمال ولو غير مقصود, اذا كان احد الزوجين موظف ومسؤل عن خدمة ما.
هذا المثل يوضح الرابط بين سلوك الفرد وسلوك المجتمع, وهو ناتج متوقع طبيعي من حالة الفشل الفردي في اي مجتمع ولو بنسبة, وكلما حرص المجتمع علي خفض هذه النسبة, لتكون 1% بدلا من 10% علي سبيل المثال, كان افضل للمجتمع , وهذا الانخفاض هو ناتج عن الاهتمام بالفرد والادوار الاجتماعية والتأهيل للدور الاجتماعي
وبالتالي يمكن استنتاج الاتي: "اذا تمكن مجتمع من تأهيل افراده لادوارهم الاجتماعية الاساسية بطريقة علمية منهجية منضبطة, متضمنة مهارة الاختيار والتفضيل والاتصال والتعبير عن العواطف, ومارس المجتمع نظام ضبط اجتماعي علمي وحازم وعادل متضمن عنصر الرقابة, انخفض معدل الفشل في ممارسة الدور, وزاد معدل النمو والرقي وتحقيق الاهداف, وقل معدل الانحراف السلوكى والامراض السلوكية والاجتماعية, وحافظ المجتمع علي صفاته السلوكية المرغوبة, من التعديل او التغيير الا بما يتفق مع تطوره ومراحل نموه الايجابية الافضل.
2. الادوار الاجتماعية الثانوية:
وطبقا للتسلسل الزمنى بعد اكتمال نمو السلوك الارادي, يكون منها ( الاخ - الاخت – الصديق – القريب – الجار – الزميل – الرفيق في العمل – المتطوع للخدمة – البائع – المالك...الخ ) وهذه الادوار تتصف بتحقيق اهداف فردية اساسية للافراد, من خلال حاجتهم للتعاملهم المباشر مع بعضهم البعض لتحقيق منفعة خاصة, ويقل تأثيرها علي المجتمع , طالما وجد نظام ضبط اجتماعي عادل وحازم قادر علي المحافظة علي حقوق افراده وفض النزاعات التي قد تنشا بينهم سلميا, وقد تترك معايير وشروط ممارسة الدور وطبيعته للافراد انفسهم لتحديدها, وفق لشروط تعاقدية (روابط) تحدد الحقوق والواجبات لكل منهم دون قيد مجتمعي عليهم, الا ان هذه الادوار الثانوية تؤثر علي السلوك المجتمعي اذا ما تعارضت اهداف العلاقة مع اهداف المجتمع, كأن يتفق اثنان علي علاقة تضر بحق المجتمع كبيع ارض لا يملكونها او جريمة ما, وكذا تؤثر في المجتمع اذا ما تعارضت اهداف وسلوك اصحاب هذا الدور مع بعضها البعض, وينتج عن ذلك النزاعات والصراعات وقد يغتصب حق من حقوق الافراد داخل المجتمع, ويتعارض ذلك مع اهداف المجتمع التي هي حماية حقوق افراده, ويجبر المجتمع علي الاستجابة لهذا النزع كمثير للالم الداخلي, ولذا يلجاء المجتمع لوضع ضوابط عامة لمثل هذه الادوار الثانوية ولا يلتزم بمراقبتها بقدر ما يلتزم بالاستجابة لعلاج مشاكلها ومخالفاتها, ويتحمل اطراف العلاقة مسؤلية الشكوي وطلب المساعدة من المجتمع, وايضا يلجأ المجتمع لنظام التأهيل الغير مباشر والنصح والارشاد, ويمارس قواعد ونظم الضبط والسيطرة علي سلوك الافراد, ويساعدهم لتحقيق اهدافهم الخاصة باعلي كفاءة ممكنة.
وللفرد في ممارسة هذا الدور حق الاختيار بين البدائل المتاحة والرفض وتحديد معايير الدور, وليس للمجتمع حق المراقبة او فرض سلوك معياري او سلطة في التدخل, الا بطلب من احدي الاطراف في حالة تعارض الحقوق والواجبات, ويجب ان يتصف هذا التدخل بالعدل والحياد التام بين الافراد والقدرة علي حماية الحقوق وردها, وضبط السلوك المخالف ومنع الاعتداء, وفق لمعايير العقد المتفق عليها ووفق للمعايير الاجتماعية المتوقعة والثقافات الموروثة.
3. الادوار الاجتماعية المصاحبة:
وتشمل تلك المجموعة كل الادوار التي يمارسها الفرد وفق لسلوكه الاجتماعي في جميع المواقف التفاعلية في تعاملاته الفردية خلال حياته اليومية, والتي تعود بالنفع او الخسارة علي الفرد نفسة, ويسعي الفرد ذاتيا لتحسين اداؤه فيها لتحقيق اكبر منفعة ممكنة منها مثل ( السائق عدا الوظيفة – المتسوق – المؤجر – المستخدم للطريق العام– عابر السبيل – المستخدم للخدمة العامة...الخ ) وهذه الادوار تعود بالنفع علي الفرد في نفسه وله كامل الحق في ممارستها طبقا لرغباته الخاصة واهدافه الفردية, ووفق للقواعد المتفق عليها والمعايير الاجتماعية السلوكة المفروضة والتي تحدد سلوكه الاجتماعي, وهو مسؤل عن تعلم مهارتها بالوسائل الذاتية, سواء بالتعلم والتقليد والمحاكاة والتجريب او بالتعليم المنظم, ويراقب الفرد سلوكه ذاتيا ويراقبه الاخرين, ويتعرض لعقوبات اذا ما تسبب في خسائر او تلف او خلل للسلوك المجتمعي, اقله الرفض الاجتماعي, الذي لا يتركه لاستكمال الانتفاع بمخالفته. وهذا النوع من الادوار لا يؤثر علي السلوك المجتمعي ككل, طالما تم ممارسته وفق للقواعد والمعايير الاجتماعية, ولذا يكتفي المجتمع في اغلب الاحيان بفرض المراقبة الضابطة لهذا النوع من الادوار, وفق لقواعد ثابتة يسهل الحكم الفوري فيها, اما بالمطابقة للمعايير والقواعد, فيتمتع الفرد بكامل الحرية في ممارسة الدور, واما مخالفة فيستحق العقوبة او الضبط السلوكى او العزل, والمجتمع غير مطالب في هذه المخالفات باعادة تأهيل المخالفين, وفي هذا النوع من الادوار يتشارك كل افرد المجتمع مع قيادته في واجب المراقبة وحق الشكوي والتبليغ عن المخالفة والضرر, وتحتفظ الدولة فقط بسلطة الضبط والمحاسبة للتقويم, وليس للانتفاع من وراء المخالفة.

ثانيا: الانحراف السلوكي عن المتوقع المجتمعي:
هو ممارسة اي من انواع السلوك المخالف للسلوك المجتمعي المتوقع من افراده, وهو الاختلاف بين السلوك الاجتماعي للفرد والسلوك المجتمعي للمجتمع, وهو غلبة الدافعية للممارسة السلوك الذاتي المخالف للسلوك الاجتماعي في موقف تفاعل اجتماعي, وهو ممارسة اي سلوك فردي يخالف العقيدة السلوكية الفردية او المجتمعية.
وبالتالي هناك نوعين من الانحراف السلوكي, احدهم علي مستوي الذات او الفرد, كأن يخالف الفرد معتقده الديني في سلوك ما ولم يتأثر بهذا الانحراف الا هو, فيسبب له الم وتوتر, وهو يدرك هذا الانحراف سواء كان اراديا او غير اراديا, وهو قادر علي ضبطه والسيطرة عليه, والنوع الاخر علي مستوي المجتمع, وهو ممارسة اي سلوك مرفوض اجتماعيا, وينتج عنه اثر في الاخرين, وقد يدركه الفرد او لا يدركه, الا انه ارادي وينتج عنه اكتساب خبرة ودافعية للتكرار في حالة نجاحه في تحقيق هدفه واشباع رغبة ما, وفي هذا النوع يفاضل الانسان بين اهدافه الذاتية والاهداف الاجتماعية, فتكون الغلبة للاهداف الذاتية, كان يكسر انسان علي عجل اشارة مرور, حيث الموقف التفاعلي اجتماعي يمارسه عدد من الافراد في نفس الوقت ونفس المكان ومرتبطين بعلاقة تنظيمية ما, ولكل فرد فيهم هدف شخصي, قد يتفق او يختلف مع الهدف الاجتماعي من ايجاد العلاقة, والمجتمع والموقف يتوقع من الجميع "الطاعة لهدف المجتمع", فان خالف احدهم السلوك المتوقع, يكون قد انحرف عن السلوك المجتمعي, اي اتصف سلوكه الاجتماعي بمخالفة السلوك المجتمعي في موقف تفاعلي مجتمعي ما, ويكون سببه الرئيسي اللحظي هو قرار الفرد الارادي بتفضيل اهدافه الشخصية عن الاهداف المجتمعية, فاستجابت حركته السلوكية لذلك القرار.
وبالتالي فالانحراف السلوكي له محددان, "سلوك ذاتي متوقع, وسلوك اجتماعي" يمارسهما نفس الشخص, ويحدد نوع الانحراف واثره بالمقارنه مع توقعان السخص او المجتمع (السلوك الفردي المتوقع ,السلوك المجتمعي المتوقع", فاما ان يكون الشخص قادر علي تعديل سلوكه وعلاج انحرافه, واما يكون فاقد للسيطر الذاتية علي السلوك اراديا او لا اراديا, بما يستدعي تدخل المجتمع للسيطرة علي سلوكه وضبطه.
ويمكن القول بان كل انحراف سلوكي, هو حالة شاذة عن المتوقع, ويلزمها تحليل سبب وحركة واثر, لدراستها وعلاجها,
والانحراف السلوكي عن المتوقع المجتمعي, لا يعني الصواب والخطأ, ولا يعني الخير والشر, ولا يعني الحق والباطل, فقد يكون لدينا مجتمع فاسد من المجرمين وقطاع الطرق, وتكون صفة السلوك المتوقع منهم (السلوك المجتمعي) هي السرقة كقاعدة عامة, فاذا انحرف احدهم عن هذا التوقع السلوكي والتزم الامانة, كان منحرف سلوكيا عن التوقع الاجتماعي واضر بمصلحة مجتمعة (الفاسد), وكذا اذا كان السلوك المجتمعي موصوف بالعشوائية وعدم احترام اشارات المرور, ومن ثم مارس احد الافراد سلوك يحترم اشارة المرور, وتوقف عند الاضاءة الحمراء, كان سلوكه منحرف عن التوقع المجتمعي, وقد يتسبب في حوادث وكوارث بفعل هذا الانحراف, فتوقفه الغير متوقع في اشارة المرور ومن خلفه لم يتوقعه, فاصتدم به, او توقف هو الاخر فجأة فتسبب في اصتدام القادمين خلفة, وبالتالي يجب التعامل مع هذا مصطلح الانحراف السلوكي مجردا, ومنسوب الي صفات السلوك المجتمعي الذي يقارن به او يحدث فيه.
وتأتي اهمية معرفة وتفهم "الانحراف السلوكي عن المتوقع", في انه اول خطوة لتكوين كل الظواهر والامراض السلوكية الاجتماعية والفردية, فالسلوك المنحرف عن المتوقع له هدف, وبتحقيق هدفه ومنفعتة والنجاح في الممارسه الامنة, تكتسب خبره ايجابية بالنسبة للفرد المخالف, وتنشأ دافعية وقيمة لتكراره واستدعائه كاستجابة مباشرة مع نفس المثير السلوكي او اي مثير مشابه, ومع التكرار تتأكد قيمة ايجابية لهذه الخبرة, وتتحول تدريجيا الي قيمة سلوكية مستهدفه ومبدأ سلوكي وصولا الي عقيدة سلوكية, رغم انها مخالفة للسلوك المجتمعي وتستدعي العقوبة.
اذا مارس الانسان سلوك منحرف عن التوقع الفردي والاجتماعي, سمي هذا السلوك "حالة انحراف سلوكي فردية" او يقال انحرف فلان عن السلوك المتوقع له, او يقول الانسان علي نفسه اخطأت وانحرفت عما اتوقع من سلوك. واذا كرر نفس الانسان نفس السلوك المنحرف عن المتوقع, سميت بوادر "ظاهرة سلوك فردية" تمثل انحراف للفرد عن المتوقع له, واذا انتظم تكرار نفس الانحراف السلوكي سميت "ظاهرة سلوكية فردية", فاذا لم يستطيع الفرد علاجها وضبط سلوكه, اعتبر الانحراف السلوكي "مرض سلوكي فردي" يستدعي مساعدة الغير, ويمكن وصف حالته بالادمان, الا ان هذا "المرض السلوكي الفردي", لا يمثل للمجتمع والسلوك المجتمعي, الا "حالة انحراف سلوكي مجتمعي", بمعني ان كل مكونات السلوك المجتمعي صحيحة الا هذه الحالة الفردية الشاذه, والتي لم تؤثر في باقي مفردات السلوك المجتمعي (افراد المجتمع), فما زالت تحت سيطرة المجتمع وينتظر المجتمع طلب المساعدة من هذا الفرد المريض لعلاجه وضبط سلوكه.
وكما اشرنا من قبل, فكل الخبرات السلوكية السلبية والايجابية منها, تنتقل بين الناس في المجتمعات من خلال عملية اساسية تربطهم وهي "مواقف التفاعل الجتماعي", عن طريق غريزة التعلم بالتقليد والتلقين والمحاكاة والتأثير والتأثر, ومن ثم فممارسة اي فرد في المجتمع لسلوك غير مرغوب او منحرف عن التوقع الاجتماعي واكتسابه خبره ايجابية ما مرتبطة بهذا السلوك, تنتقل بين افراد المجتمع, كل بحسب حاجتة ورغبته, فمنهم من يقبل الخبرة ومنهم من يرفضها, الا انها تبدأ في الانتشار.
وعندما يتمكن الفرد المنحرف سلوكيا من التأثير في باقي افراد المجتمع, وينقل اليهم نقل خبرات الانحراف السلوكي, ومن ثم تكرر ممارسة هذا الانحراف السلوكي بين عدد ما من افراد المجتمع, يتحول الانحراف السلوكي الفردي الي انحراف سلوكي مجتمعي يستدعي التدخل المجتمعي الفوري لعلاج مشكلته وضبط سلوكه, ولا يعامل معاملة الحالة شاذة (فالحالة الشاذة المهملة لا تملك حركة ولا اثر في باقي مكونات المجتمع), واذا تكرر نفس الانحراف السلوكي المجتمعي بواسطة نفس الافراد سمي ظاهرة مجتمعية مرتبطة بانحراف سلوكي, سواء كان التكرار مصحوب بزيادة عدد مفردات الظاهرة او مقتصر علي عدد مرات التكرار, وبالطبع لا يمكن اعتبارها حالة شاذة ولا فردية, مما يستوجب التدخل الفوري العلمي لدراسة وتحليل الظاهرة وعدم الاعتماد علي القوانين والاعراف التقليدية لعلاجها, والحرص من تحولها الي مرض سلوكي مجتمعي.
فكما تمكن المرض السلوكي الفردي, من الشخص المدمن وافقده السيطرة علي سلوكه وعدل من شخصيته ودفع البعض الي طلب المساعدة "الخارجية" لعلاجه, والبعض الاخر يستسلم لتعديل سلوكه وشخصيته, بالمثل سيتمكن المرض السلوكي المجتمعي من افقاد المجتمع السيطرة علي سلوكه وسيعدل من الشخصية المجتمعية, ويدفعها لا اراديا الي طلب المساعدة الخارجية او الاستسلام للمرض وتقنينه والاقرار بالصفات السلوكية الجديدة, تلك الصفات والسلوكيات الجديدة التي منها ما هو مدمر للمجتمع ذاتيا.
وبصفة عامة فسبب الانحراف السلوكى الذي يبدأ دائما من فرد واحد وينتقل الي مجتمع ويؤثر في شخصيته, هو وجود مثير غريزي قوي يستدعي استجابة الفرد في موقف تفاعل اجتماعي ما, في وجود تعارض مؤقت او دائم بين هدف الفرد من الاستجابة (سلوكه الذاتي) والاهداف المجتمعية (سلوكه الاجتماعي وسيطرته علي تحديد نوع الاستجابة), وفي بعض الحالات تكون قوة المثير وقوة الذاتية وضعف الاجتماعية, دافع لتغليب الاهداف الفردية فيختار الفرد اراديا سلوك ذاتي مخاف لقوانين السلوك المجتمعي, وينتج عن هذه التجربة الجديدة وخبرتها نجاح او فشل في تحقيق هدف شخصي لم يكن الفرد قادر علي تحقيقة او تجربته في اطار مجتمعي.
عندما يمارس اي فرد انحراف سلوكي عن المتوقع الاجتماعي, يكون العلم والجهل بماهية السلوك المجتمعي والتي تشكل عقيدة الفرد الاجتماعية, احد مسببات هذا الانحراف, فالبعض يمارس الانحراف السلوكي وهو يجهل مخالفته لان عقيدته الاجتماعية العقلية ادركت الاستجابة علي انها متوافقة والعقيدة الاجتماعية التي اكتسبتها, والبعض يعلم بان هذا الانحراف السلوكي مخالف للعقيدة الاجتماعية العقلية التي اكتسبها, وهذا الاختلاف يؤثر في طبيعة ممارسة الانحراف السلوكي وخبراته, فنجد الجاهل يمارس مخالفته السلوكية علنا ولا يخشي من العقوبة ويجادل المعترض لاثبات حقه ولا يوجد لديه دافع للكذب, بينما العالم يمارسها سرا ولا يجادل المعترض ولديه دافع للكذب خوفا من العقوبة ولو رفض اجتماعي, والفرق بين الحالتين يظهر ويوضح دور "الادارة المجتمعية" في تعزيز ونجاح الانحراف السلوكي.

ففي الحالة الاولي حالة الممارسة العلنية, اذا توافر للمجتمع نظام اداري صحيح يتضمن عنصر رقابة وتقويم علمي, تمكن من اكتشاف الانحراف المعلن وتوجب عليه التدخل لتصحيح عقيدة المخالف العقلية, والتي بتقويمها قد تنتهي مشكلة الحالة, وتوقفت الممارسة المنحرفة وفشل الفرد في تحقيق هدفه منها وتحولت الي خبرة سلبية, من اول تجريب لها وقبل ان تترتب عليها مشاكل اخري او خسائر مادية, كان يظن انسان ان من حقه مخالفة شروط البناء والارتفاع بدون ترخيص لان المباني من حوله عالية, فيقوم بالتعلية قبل الحصول علي ترخيص, فاذا تم اكتشاف المخالفة او الانحراف السلوكي وتقويم العقيدة الاجتماعية العقلية للمخالف, فور شروعه في ممارسة هذا السلوك, منع وتم تصحيح سلوكه ولم يترتب علي هذا الانحراف ضرر مادي سواء غرامه او ازالة لما تم بنائه, وبالتالي هذا المثال تمت ممارسته علنيا اعتقاد من صاحبه انه علي صواب وحق, لتقع مسؤلية ضبطه وعلاجه والسيطرة عليه, علي عاتق المجتمع, فاذا تمكن مثل هذا الانحراف العلني من تحقيق اهدافه واستكمال ممارسته, كان هناك مؤشر خطير علي فساد العقل المجتمعي والادارة.

اما الحالة الثانية حالة الممارسة السرية, فهي ايضا متوقعه وفق لخصائص السلوك الانساني, الا ان مسؤليته يتحملها "المخالف" حتي تظهر لعين المجتمع ويستشعرها, ليشاركه العقل المجتمعي (الادارة) في مسؤليتها واثرها, وهي حالة سلوكية لها طابع خاص ومميز, تتشارك جميعها في صفة الكذب بدافع الخوف او الخجل, فمن يمارس سلوكها يعلم انه "مخالف" يستحق العقوبة او يوصم بنقيصه, فيبدأ هذا المنحرف سلوكيا دائما في ممارسة سلوكه المنحرف سرا, سواء لتحقيق هدف او تجريب استجابة ما لمثير غريزي ما ولا يجد له اشباع اجتماعي مناسب, ومع بدء الممارسة السلوكية المنحرفة عن التوقع المجتمعي, يكتسب هذا الفرد خبرة سلوكية تحقق اشباع غريزي او حاجة ومنفعة ما, ويقيم نتائج الخبرة ومفرداتها, التي تكون اما ايجابية او سلبية او نجاح او فشل, وفي حالة النتيجة السلبية الفاشلة, يتوقف الدافع للتكرار الا لتأكيد الفشل, الذي ان تأكد يحدث انطفاء ذاتي للخبرة ورفضها اذا استدعتها الذاكرة مرة اخري, اما في حالة نجاح الفرد في اكتساب خبرة ناجحة وايجابية (بالنسبة لهدفه الشخصي) من ممارسة انحراف سلوكي ما, تمكن من خلاله اشباع رغبة وتحقيق هدف شخصي بامان وسلام, تحولت هذا الخبره الي قيمة سلوكية, يتم استدعائها كلما ظهر مثر غريزي او حاجة لم يجد لها هذا الفرد ما يشبعها في اطار اجتماعي, فتتكرر الممارسة وكلما تأكدت ايجابية نتيجة الممارسة كلما تحولت الي مبدأ سلوكي وعقيدة سلوكية اجتماعية , تمكن الفرد من تحقيق اهدافه ورغباته في اطار مجتمعه بيسر وسلامة وامان .
وهنا يكون هذا الفرد اكتشف طريقة وخبرة جديدة للتحايل علي السلوك المجتمعي وكسر قيوده, وبالتكرار الفردي اصبح هذا الفرد سرا خبير في هذا السلوك ويعتقد انه سلوك خير لانه يمكنه من تحقيق اهدافه الانتفاعية, والانسان بطبيعته الذاتية والانتفاعية ينزع الي التميز الاجتماعي والذي يحققه بزيادة رقعه تبادل المنفعة, كما ان احد اهدافه الاجتماعية هي الشعور بالقوة بدعم الاخرين له, ولهذا يتجه الانسان تلقائيا الي نقل خبراته السلوكية المنحرفة الي دائرته الاجتماعية القريبة والمأمونة (الاسرة والاصدقاء والاقارب والجيران والمعارف والزملاء...الخ) , ليحصل علي تميزه ودعمه وقوته ويتغلب علي شعوره بالاغتراب الاجتماعي بمشاركة الاخرين لسلوكه الشخصي, فيبأ هذا الانسان, بترقب واستكشاف حاجات واهداف دائرته الاجتماعية, حتي يجد احدهم له هدف مماثل لموضوع خبرته ولا يجد اطار اجتماعي لتحقيق هدفه ليكون مستهدف لنقل هذه الخبرة (الانحراف السلوكي), فينقل اليه خبرته بالتقليد والتلقين والتعليم المباشر سرا, وبذلك ينتقل الانحراف السلوكي من فرد الي اخر ويتكرر وتتسع رقعته, سرا وبعيد عن اعين الرقابة والتقويم المجتمعي, ليشكل ظاهرة اجتماعية.

وعندما تتسع دائرة ممارسة الانحراف السلوكي ويزيد عددها ونسبتها في اي مجتمع, تتكون بينهم روابط وقد تنظم صفوف تلك الروابط ولو سرا, ويكتسب افرادها نوع من انواع القوة التي تدفعهم الي اخراج سلوكهم المنحرف الي العلن, دون الخوف من العقوبة المجتمعية, التي هي في الاساس عقوبة للافراد وليست للجماعات, وبصرف النظر عن قوة الافراد او مقارنة نسبيتهم العددية مع نسبة معارضيهم في المجتمع, الا انها قد تصل الي نسبة معتبرة لا يملك المجتمع اعلان الحرب عليهم ولا عزلهم الاجتماعي, ويجبر في كثير من الاحيان علي تقنين اوضاعهم , ليتحول الانحراف السلوكي الي عقيدة مجتمعية غيرت من صفات الشخصية المجتمعية, بغير ارادة او تخطيط من العقل المجتمعي.

الأحد، نوفمبر 29، 2015

رؤية "النموذج الاداري المجتمعي" الاسترشادي

الباب الثاني
مبادئ السلوك الاجتماعي
مقدمة:
بقلم/ اسامه قراعه
نذكر بان هدف هذه الرؤية وهذا المحتوي, هو الوصول لاستنتاج علمي لتنظيم "نموذج ادارة مجتمعية" قادر علي توقع سلوك المجتمع وظواهره, ويضبط سلوكه الكلي, وتفاعل افراده وموارده, ويديره في اتجاه التطور المستمر والتغيير للافضل, داخل منظومة  ادارية امنة ومنفتحة علي العالم الخارجي, يصعب اختراق امنها القومي او اخلاله داخليا وخارجيا, وقادرة علي مواجهة التنافس والتحديات والعدائيات والازمات, بناء علي تنبوء علمي صحيح.
ولان مثل هذا النموذج وهذه المنظومة يعتمد مبدئيا علي "العلم", فقد حاولنا في الفصل الاول تحرير مصطلح العلم والتذكره باطارة وبعض مصطلحاته ومعاييره وشروطه الاساسية, تجنبا لاي محاولات تضليل او خداع غير علمية يحاول البعض الجدل بها, لنقد المحاولة الساعية الي العدالة والامن والمستقبل الافضل للجميع.
ولاننا بصدد رؤية, ترتبط بحقيقة ثابتة ظاهرة وهي وجود "مجتمعات", بما يعني انها مصنفة علم من العلوم, سنقوم ايضا بمراجعة بعض موضوعات علم الاجتماع المتعلقة بخصائص المجتمعات ومتغيراتها والتي منها بطبيعة الحال القرارات الادارية المجتمعية, والتي تصف وتحكم قوانينها ونظرياتها, وكذا السلوك الانساني, في حالته الفردية والاجتماعية والمجتمعية, ومن ثم نسقط هذه القوانين علي الظواهر والحالات الخاصة, وننظمها لنستنتج بعدها المبادئ والاسس العامة لضبط السلوك الفردي والاجتماعي والسيطرة عليه, بمنهج علمي مجرد, في مقابل اغراض فتوي السياسيين ومبرراتهم التي يمكن ان تكون في كثير من الاحيان جاهلة او فاسدة. 
وسيتدرج تقديم الموضوعات المختارة في هذا الباب ابتداء من تعريف "السلوك", الذي اعتقده اصغر وحدة معرفة في العلوم الاجتماعية.
الفصل الاول
السلوك
س : ما هو السلوك؟ وما اهمية دراسته؟ 
1.     تعريف السلوك :
"هو كل نشاط جسمي او عقلي,  يصدر من الكائن الحي, وهو متدرج من البسيط الي المركب والمعقد, وابسط انواعه هو السلوك الانعكاسي او اللاارادي, واعقد انواعه هو السلوك الاجتماعي, الذي يحتاج لتشغيل المراكز الوظيفية العليا من الجهاز العصبي", "السلوك هو استجابة لمثيرات داخلية غرائزية وخارجية ترتبط بالبيئة المحيطة".
a.     السلوك الانعكاسي او اللا ارادي: هو ابسط انواع السلوك الذي نسميه رد الفعل المباشر, الذي يصدر سريعا دون تفكير او شعور باننا نمارسه, فمثلا عندما يقترب عائق مفاجئ امام العين, نجد الجفون تقفل تلقائيا, وبعض الاشخاص عند الشعور باحساس معين كالخوف او التوتر, تهتز اقدامهم او يقرضون اظافرهم, دون تفكير او تركيز او شعور عقلي بهذا السلوك واذا حاول الانسان السيطرة الارادية علي هذا السلوك فشل ولذا فهو لا ارادي, ولهذا يعتبر هذا النوع من السلوك لا ارادي او انعكاس مباشر لمثير ما.
b.     السلوك الارادي الذاتي: وهو هذا السلوك الذي يمارسه الانسان مستجيبا لمثيراته الغرائزية ومثيرات البيئة المحيطة به, بمعزلة عن المجتمع او قواعده وقوانينه, فيتحرر العقل من القيود والمحددات التي يفرضها المجتمع علي السلوك, فيستخدم الانسان عمليات عقلية منطقية بسيطة وموجهة,  تتناسب مع رغباته, ويكون هدف السلوك الجسمي والعقلي في هذا النوع, هو اشباع الغرائز والنفعية وتحقيق الرضا والاستقرار الذاتي والسعادة والجنوح للراحة والبعد عن الالم.
c.     السلوك الارادي الاجتماعي: هو هذا السلوك الذي يمارسه الانسان, مستجيبا لمثيراته الغرائزية ومثيرات البيئة المحيطة به متضمنة افراد المجتمع, داخل اطار من القيود والمحددات الاجتماعية سريعة التغير بواسطة الافراد الاخرين وارادتهم, فيحسب الانسان لكل سلوك يمارسه الاف الحسابات العقلية, والتي تستخدم كل حواسه المتاحة, لادراك قيم هذه المتغيرات الاجتماعية, مستهدف اشباع الغرائز والمنفعة وتحقيق الرضا النفسي بالاضافة الي الرضا الاجتماعي, وقد يجبر علي بذل الكثير من الجهد والطاقة ولا تتحقق له الراحة او السعادة لاسباب خارجة عن ارادته, التي قد تقهرها ارادة الغير.
d.     المثير السلوكي: هو اي عامل خارج أو داخل جسم الكائن الحي, يدركه العقل باي وسيلة من وسائل الادراك, فيحفز الغريزة الانسانية المرتبطة به, وينشيئ دافعية لممارسة نشاط او سلوك ما, يتناسب وقيمة الاثر الذي احدثه المثير السلوكي, طلبا لمنفعة او دفعا لضرر.
e.     المثيرات السلوكية الداخلية الغريزية: مثل الجوع والاخراج والعطش والخوف والسعادة والالم والخيال العقلي...الخ.
f.       المثيرات السلوكية الخارجية البيئية: افراد المجتمع ومكونات البيئة (متضمنة المعلومات التي يسعي الانسان ذاتيا للحصول عليها), والتي يتفاعل الانسان معها لاشباع حاجات  كافة.  
g.     خصائص السلوك الاساسية:  السلوك متعلم عن طريق عمليات "التنشيئة الاجتماعية" و"التعليم-التعلم", وهو تراكمي ومتدرج في النمو, توجهه وتطوره خبراته المكتسبة السابقة, فلكل سلوك او خبرة تالية يوجد خبرة سابقة لازمة له, والخبرات السلوكية هي التي تشكل المبادئ والقيم والعقيدة العقلية المرتبطة بالمنطق العقلي الفطري, وهدف السلوك الفطري هو "التفاعل الاجتماعي" لاشباع الحاجات الغريزية وتحقيق المنفعة الخاصة والسعادة والراحة وتجنب الالم وتحقيق السلام والرضا النفسي والاجتماعي.
2.     كيف يتدرج السلوك ويتكون؟:
نلاحظ ان الطفل بعد الولادة, يتميز بالسلوك الجسمي الغريزي, دون السلوك العقلي, الذي يكون في طور بدء النشاط, خالي من المعرفة (الخبرات) اللازمة لممارسة ابسط انواع السلوك الارادي (التحكمي), وكذا في بعض الحالات المرضية كالزهايمر والغيبوبة, يتميز المريض بالسلوك الجسمي دون السلوك العقلي الذي يكون في حالة خمول اوضمور او انطفاء, ونلاحظ ان السلوك الجسمي يقتصر في حالة الغيبوبة مثلا علي اداء بعض الوظائف الاساسية الغريزية لجسم الانسان كالغذاء والتنفس والاخراج, دون الحركات التعبيرية الهادفة الارادية, التي تتطلب وتدل علي النشاط العقلي والتحكم العصبي في حركة الجسد, وبالتالي فيجب ان نلاحظ الفرق بين "السلوك الجسدي"و "السلوك العقلي" ولا نغفل ان لكل منهم ارادة فطرية اساسية, فالجسد وان لم يتحرك اراديا فله حركة لا ارادية, والعقل ان لم ينشط اراديا ليظهر نشاطة في حركة الجسد, فله نشاط لا ارادي فطري مرتبط بحركة الجسد اللا ارادية, الا اننا نهتم هنا بالسلوك الارادي (جسدي وعقلي) والذي يعتبر تطور ونمو للسلوك الفطري اللاارادي المتدرج منذ الطفولة.
الطفل بعد الولادة, يبدأ تدريجيا (من اللا ارادي) في ادراك مثيراته الداخلية والخارجية واكتساب خبرات منطقية فطرية (المنطق هنا يختلف من طقل لاخر بحسب فروقه الفردية الا انها تمثل منطقه العقلي), يسجلها كمعرفة تمكنه من الاستجابة الارادية لهذه المثيرات عند تكرار ظهورها مستقبليا, ومن ثم يبدأ العقل في ممارسة السلوك الارادي, وينطفئ السلوك اللاارادي تدريجيا, واذا نظرنا لهذا التطور الفطري في نمو الطفل, نظرة شاملة, سنكتشف ان مايحدث لهذا الطفل, ما هو الا ممارسة فطرية لغريزة التعلم.
ان السلوك العقلي هو المصدر الرئيسي للسلوك الارادي, والسلوك اللاارادي سابق له في الوجود, وتعتبر غريزة التعلم الفطرية هي السبب الرئيسي في نمو السلوك العقلي, وبذلك يمكن التحكم في السلوك الارادي عن طريق ضبط مدخلات غريزة التعلم الفطرية, واستغلالها في تطبيقات التعليم لتعزيز وتصحيح خبرات العقل ومنطقه.
وحتي نتمكن من التعامل مع السلوك الانساني, يجب اولا ان نتصور ونحدد  سيناريو نمو السلوك العقلي الارادي, منذ الطفولة حيث الفراغ العقلي والخبرات والمعارف صفرية, وحتي تكوين العقيدة العقلية التي تميز شخصية الانسان والتي تبلغ قمتها عند العلماء, ثانيا نفك ونفهم الرابط بين السلوك الجسدي الحركي الارادي والسلوك العقلي, [الجسد لا يمكنه ممارسة سلوك لم يدرك العقل خبرته الا السلوك الفطري او الغريزي].
وكما ذكرنا من قبل, الطفل بعد الولادة مباشرة يتميز بالسلوك اللاارادي البسيط دون السلوك الارادي العقلي, الذي يكون في طور بدء النشاط والنمو عن طريق تفعيل غريزة التعلم, ويكون خالي من المعرفة (الخبرات) اللازمة لاختيار نوع الاستجابة المناسبة لاي مثير والتحكم في السلوك, ونلاحظ ان الطفل في مراحله العقلية البدائية, لا يختار مصادر معرفته ومدخلاته العقلية التي يتلقاها من البيئة المحيطة به, فهو لم يختار الاسرة ما اذا كانت متعلمة او جاهلة فقيرة او غنية, ولا بيئته ما اذا كانت زراعية ام صحراوية, باردة ام حارة, مريحة ام قاسية, مسالمة ام حربية...الخ وكل هذه المتغيرات بالطبع تؤثر علي نوع الخبرات والمعارف التي سيكتسبها الطفل تدريجيا, وهو في هذه الحالة مستقبل ومستجيب فقط لما تمده به البيئة من معلومات ومثيرات وخبرات, يتفاعل معها بغرائزه المحدودة الاولية (الفطرية) التي يكتشفها ايضا لاول مرة, وينتج من هذا التفاعل اوهذه العلاقة بين الطفل وبيئته, نجاح او فشل او سعادة او الم, ويقوم العقل بتخزين نتيجة هذا التفاعل (الظرفي) في الذاكرة في صورة "خبرات سلوكية", يستدعيها ويطورها العقل بمنطق فطري يسعي للسعادة ويتجنب الالم, بمجرد تكرار نفس الممارسة والتعرض لنفس المثير او محاولة ادراك مثير مشابه او مرتبط بها.
والشكل التالي رقم 1 يوضح كيفية  تكوين الخبرات السلوكية (المثير والدافع والاستجابة والعقل والذاكرة والخبرات)
شكل رقم 2 يوضح كيفية تكوين الخبرات السلوكية وتطورها وحتي تكوين العقيدة والشخصية
 
لقد عرفنا السلوك سابقا بانه كل نشاط عقلي وجسدي, وعرفناه ايضا بتدرجه من البسيط اللا ارادي الي المعقد الارادي, فلنتابع معا تصور لتطور السلوك, بدء من تكوين اول معرفة وخبرة عقلية منذ لحظة الولادة, وحتي مرحلة اكتمال نمو السلوك الارادي "الشخصية":
اولا: مرحلة اول سلوك عقلي واول معرفة وخبرة وادراك "بعد الولادة" والاشهر الستة الاولي:
1.     يخرج الطفل من ظلمة رحم الام مغمض العينين, وينقطع الحبل السري الذي هو مصدر اشباع كل حاجاته الاساسية في رحم الام, ويبدأ الطفل في الانتقال من حالة الاعتمادية والتطفل علي الام وهو جنين, الي حالة التأهيل الفطري للاعتماد علي النفس وهو طفل. وتكون قدراته العقلية والحركية اللازمة لادراك المثيرات وصدور الاستجابة لاشباع حاجاته الاساسية علي الاقل منعدمة لعدم وجود "خبرة سابقة", ولذا يحتاج للبقاء حيا الي شخص معيل (الام او من ينوب عنها) لرعايته وتمكينه من الحياة, وحتي اكتساب خبرات وبناء قدرات ذاتية يعتمد عليها لينفصل عن المعيل ويعتمد علي نفسه للبقاء حيا واشباع حاجاته الاساسية.
2.     بعد قطع الحبل السري يبدأ تفاعل الغرائز الانسانية والاحساس بها, وتظهور الحاجة لاشباعها فطريا, ذاتيا, تلقائيا, بعد انقطاع دور الام في طور الجنين, وتدريجيا يربط الطفل حاجاته الاساسية بعلاقة نفعية مع مفردات البيئة المحيطة التي يدركها تدريجيا مستهدف درء الالم وجلب السعادة والهدوء, ويستكمل التعرف علي البيئة واكتشافها وادراكها عقليا, وتعلم وظائفها واستخدامتها, عن طريق "التجريب".
3.     ومن سيناريوهات تفسير صراخ الطفل بعد الولادة, "انه عند قطع الحبل السري يدخل الهواء من الفم الي رئة الطفل لاول مرة محدث الم يستشعره الطفل, ويدركه العقل كمثير داخلي ملح في طلب استجابة غريزية (رد فعل) مستهدف التحكم في هذا الالم وايقافه", وعند محاولة تفسير هذا السيناريو, يمكن القول افتراضا لتأييد رؤيتنا, بان الطفل استقبل "المثير" فبحث العقل عن استجابة سلوكية مناسبة في الذاكرة فلم يجد ولم يستجيب لحظيا (فالسلوك فطري لا ارادي), وسرعان ما يدخل الهواء ويخرج من الفم يؤثر في الاحبال الصوتية التي يستشعرها الطفل ايضا لاول مرة الا انها لا تحدث الم او تمثل مثير ملح في الاستجابة, في هذه اللحظات يكون الطفل في حيرة عقلية, فهو لا يستطيع ابطال عملية التنفس لوقف الالم, ولا يدرك وظيفة الاحبال الصوتية, وسرعان ما يتمكن العقل فطريا من تجريب التحكم العصبي في الاحبال الصوتية, فتنجح  المحاولة ويخرج اول صوت له (الصراخ) كاول استجابة له مرتبطة بمثير الالم الداخلي, الذي سرعان ما يعتاد عليه ويزول اثره وتبقي خبرته.
4.     لقد مارس الطفل اول سلوك فطري لا ارادي, نتج عنه ادراك اول علاقة بين العقل والجهاز العصبي, وسواء كان المثير هو الالم الناتج من دخول الهواء, او قطع جزء من الجسد, او حتي قبضة يد وادوات الطبيب عليه, اوكان  الحيرة الادراكية, فالنتيجة واحدة وهي استدعاء الاستجابة وادراك اول خبرة تربط بين العقل والجهاز العصبي وبين الالم والصراخ, والدليل الوحيد عليها هو تكرار نفس الاستجابة مع المثيرات الاخري التي ستظهر مستقبلا, وحتي يتمكن من تغيير نبرة الصوت ممزوجة بالدموع والابتسام للتعبير عن اختلاف نوع الاستجابة.
5.     لنستكمل متابعة هذا الفرض, فماهي الا فترة وجيزة, ويهدأ الالم او الحيرة الناتجة من ممارسة عملية التنفس ودخول وخروج الهواء, وتستقر الحالة المزاجية للطفل, ويختفي المثير الذي استدعي الصراخ كاستجابة له فيتوقف الصراخ, ولا نستبعد احتمال توقف الصراخ نتيجة لانشغال العقل بادراك  مفردات البيئة الجديدة التي لم تحدث الم او اثر بعد, وبالتالي فلا وجود لعلاقة شرطية بين الالم والصراخ وانما الحيرة او اكتشاف الاحبال الصوتية كانت سبب الصراخ, وان كان احتمالا ضعيفا من وجهة نظري.
6.     بعد ممارسة الطفل لهذا السلوك الفطري الاول, يبدأ العقل النشط في تكوين معرفة ومعني  للاشياء التي يتمكن من ادراكها, ويسجلها العقل بغريزة فطرية وهي "غريزة التعلم", بعضها ذو روابط منطقية لاداء وظيفة ما تمثل خبرة وبعضها دون روابط تمثل معرفة, (فالعقل يملك منطق فطري لتنظيم عملياته العقلية والاحتفاظ بخبراته ومعارفه التي يدركها بحواسه العاملة).
7.     لو نظرنا في عقل الطفل في هذه اللحظة لوجدنا فرضا (لبناء تصور) بدء تكوين:
a.      معاني للاشياء والغرائز الحسية وحتي الافعال (الفم – الاحبال الصوتية – اللمس – السمع – البصر - الالم – الهدوء - الحركة – المؤثرات – الاستجابة – الارادة – العقل), وحتي وان فشلت هذه الاشياء في  اداء وظيفتها واكتمال معانيها, الا انها تعتبر نواة اساسية لنشاط العقل وبناء الخبرات تدريجيا في تناسب وتناغم مع نمو القدرات الجسمية والحواس.
b.     تكوين قيمة مبدئية للاثر الذي تحدثه هذه الاشياء سواء الم او هدوء, والهدوء في هذه المرحلة اعتقده غاية الطفل, لانه يسمح لعقله ادراك الحواس الاساسية, وتفعيل غريزة التعلم وحب الاستطلاع والاستكشاف, ويسمح للعقل بالتركيز علي حاسة دون غيرها وبالتبادل والتدرج, لاكتشاف وظيفتها وتسجيل قيمتها ومعانيها في الذاكرة.
c.     تكوين علاقة شرطية مبدئية, بين المثير والاستجابة مرورا بالعقل, فاذا ظهر هذا المثير مرة اخري يمكن لعقله ادراكه فيستجيب الجهاز العصبي بالبكاء تلقائيا, حيث لا وجود لخبرات بديلة للاستجابة, فكل حاجة عند هذا الطفل لا يملك اشباعها, تمثل الم وتوتر يستدعي الصراخ.
8.     وسواء اتفقنا علي الفروض السابقة ام لا, فلا اختلاف علي وجود فعل "الصراخ" كاستجابة  لمثير غير محدد, وهذه الاستجابة (س) لاارادية, ربطت بين مثير (م) وعملية عقلية عصبية (ع) ونتيجة  اشباع لها قيمة (ق) سواء سلبية او ايجابية يتم تخزينها بذاكرة الطفل في موقع (ل), وبذلك يصبح لدينا علاقة بين خمس متغيرات عقلية تمثل خبرة (م ع س ق ل) بعضها كمية وبعضها كيفية. وقد لا يهتم البعض كثيرا بتلك التفاصيل ويتصورها اخرين انها "فطرية" وحتي يكتمل نمو الطفل ويستطيع المشي والكلام والتعليم, ولكننا في هذا الموضع لا نستهدف تحديد السن المناسب للاهتمام بالطفل ولا تعليمة, ولا نستهدف ايضا تحليل وتفسير وكشف لسلوك الطفل في مرحلة معينة لعلاج مشاكلها وظواهرها, ولكننا نقدم سيناريو افتراضي لتكوين السلوك وتطوره ومحدداته وتوضيح علاقته بالمثيرات الداخلية والخارجية, ليتمكن العامة غير المتخصصين من تكوين صورة اجمالية لماهية "السلوك" ومكوناته , وكيف يتطور بالفطرة وبالتعلم والتعليم والتدريب, ولذا وجب بد القصة والسيناريو من "الصفر".
9.     ولنتابع معا ما يحدث لسلوك هذا الطفل اللاارادي بعد هذه الخبرة الاولي (الالم/ الصراخ), فما تلبس عملية الصراخ تهدأ لاي سبب من اسباب استعادة الهدوء النفسي للطفل, سواء تلقائيا بزوال اثر المثير "الالم" افتراضا, او باقترابه من بيئته الاصلية (الام) ذات القيمة العقلية الاعلي في استعادة الهدوء بعد زوال الالم, فاذا ربط الطفل بين الصراخ وزوال الالم ,ارتبط الصراخ شرطيا بالالم, واذا ارتبط الصراخ باستعادة الهدوء, ارتبط شرطيا باستعادة الهدوء, واذا ارتبط الصراخ باستدعاء الام وعلاج المشكلة, ارتبط  الصراخ شرطيا باستدعاء الام او المعيل, وقد تنشأ من هذه التجربة كل الروابط السابقة والتي تتحول الي روابط شرطية بتكرار السلوك.
10. يستمر الطفل في حالة من الهدوء والتي يمكن وصفها بحالة النوم المستمر, مالم يعكر صفوه, مؤثر داخلي غريزي (الاكل والاخراج ووظائف الاعضاء) او مؤثر خارجي, يحدث الم او توتر يستدعي استجابة الطفل له بهدف ايقافه واستعادة الهدوء, ولا يجد الطفل في عقله خبرة لاشباع حاجاته الا خبرة الصراخ والذي يستخدمه للمرة الثانية والثالثة كاستجابة لا ارادية, فيستجيب المعيل (الام او من ينوب عنها) لهذه الاستجابة, وتقوم بتغذيته وتنظيفه ووضعه في وضع مريح لا يسبب الم في الجسم وتستدعي الاطباء لعلاج الامه الداخلية ان وجدت...الخ فيعود الي حالة الهدوء (النوم) التي تمثل رغب وقدرة اصيلة في هذا الطور, وهنا يتأكد او يتغير معني "الصراخ", ويرتبط  بالتعبير عن العواطف واستدعاء المعيل او طلب العون, وما هي الا ايام او اسابيع قليلة وتنتهي حالة الهدوء والنوم, وبتكرار استخدام الصراخ في اشباع حاجات و رغبات الطفل, تزيد قيمة هذه الاستجابة (الصراخ) وتتطور في العقل وتمتد مع مرور الوقت والنمو الي استخدامها كمثير مستقل لاشباع رغبات الطفل في التفاعل مع مفردات البيئة المحيطة, باستدعاء المعيل للمساعدة في فعل ارادي يمارسه الطفل, ويمثل له سعادة وتمتع بمفردات البيئة المتاحة كالالعاب, وبعد ان كان الطفل يبكي من الم الجوع او حساسية الجسد عند الاخراج, اصبح يبكي اذا ابتعدت عنه الام او اللعبة او انطفأ النور فتعطلت حاسة الابصار التي يسعد بها...الخ, لقد تمكن عقل الطفل من تحويل الصراخ من معناه كاستجابة الي معناه كمثير لمن حوله, وقد تطورت رغبته المحدودة في الهدوء والسكينة المتوافق مع قدراته بعد الولادة مباشرة, الي رغبة في التمتع والسعادة بادراكه العقلي لقدراته وحواسه المختلفة, وقد تطورت حاجاته الاساسية من غريزية تفرض نفسها بغير ارادة الطفل فتحدث الم, الي حاجات ارادية تحدث متعه وسعادة وتشبع غريزة حب الاستطلاع والاكتشاف والمعرفة, وتحدث توتر والم ان لم يتم اشباعها.
11. لو نظرنا الي عقل الطفل وذاكرته بعد الخبرة الاولي ما وجدنا الا قيمة واحدة لكل نوع مدرك سواء كان مثير او استجابة, الا انه مع كل تكرار نفس نوع "المثير" تتغير قيمة "الاستجابة" وتزيد نتيجة  لنجاحها وتاكيد صحتها, بينما لا تتغير قيمة المثير, ومع كل تعرض لنوع مثير مختلف يستدعي نفس الاستجابة (الصراخ), تتغير ايضا قيمة الاستجابة لاضافة  رابطة جديدة تشبعها, ويضاف مثير جديد ذو قيمة جديدة في قائمة الادراك, وبمرور الوقت وزيادة تعرض الطفل لعدد كبير من المثيرات الداخلية والخارجية يدركها العقل, يخزن "قيم شبه ثابتة" لكل مثير تفاعل معه بواسطة كل حواسه المختلفة بحسب درجة نموها, بدء من البصر والسمع  واللمس وحتي حركة الجسد كاليد والارجل. بعض هذه المثيرات المدركة تحدث الم, وبعضها يحدث سعادة لاشباع غريزة "حب الاستطلاع" لدي الطفل, ولكل منها قيمة تدل عليها بمجرد ادراك ظهورها, لقد اصبح لدينا طفل خبير وعقل قادر علي ادراك البيئة حوله وقيم مؤثراتها ووقادر علي التعبير عن حاجاته وعواطفه بطريقة خاصة به.
12. لقد اكتسب الطفل خبرات تمكنه من الفعل ورد الفعل في حدود قدراته المحدودة, فهو يستدعي "المعيل" اراديا للتغلب علي الالم بالبكاء, ويستدعيه لمساعدته في ممارسة حب الاستطلاع والسعادة وليمكنه من الاشياء التي يستطلعها (كالالعاب), الا انه بعد ان يتمكن من اللعبة يتعامل معها ذاتيا بهدف التأثير فيها واكتشافها واستخدامها ان امكن, ويجرب الفعل باليد والرجل والنظر والصوت واللمس ويسعد باكتشافها واستجابتها, كما يقوم بتدريب ما اكتشفه من اعضائه وحواسه علي العمل ويستنتج وظائفهم, ويسعد بقدراته الجديدة. لا فرق بين من يلعب بقطعة من الخشب او قطعة من الذهب ولا من يكتسب خبراته في تكييف ولا من يكتسبها في خط الاستواء, فالاول ادرك لون الخشب ولم يدرك لون الذهب والثاني ادرك لون الذهب ولم يدرك لون الخشب, والاول ادرك قيمة الجو البارد وخبرته التي لم يدركها الثاني, والثاني ادرك قيمة وخبرة الجو الحار التي لم يدركها الاول, وكلاهما يسعد بالاكتشاف واستخدام قدراته وليس قيمة الاشياء الحقيقية, وكلاهما يدرب عقله ويساعده علي "النمو".
13. وهذا لا يعني عدم وجود فروق بين الاطفال, او انه لا تأثير لصحة الطفل وقدراته الخاصة او مكونات البيئة وقدراتها علي سلوك الطفل ونمو قدراته العقلية, فبالتأكيد هناك اثر لفقد القدرة علي البصر او الكلام او اي اعاقة جسدية او مرض علي سلوك الطفل ونموه العقلي, والتي قد تكون سلبية او ايجابية, وكذا هناك تأثير لطبيعة البيئة المحيطة ومكوناتها علي سلوك الطفل ونموه العقلي بالسلب والايجاب ايضا, الا ان هذا الاثر يظهر في مراحل متقدمة نوعا ما, بعد استكمال اكتشافه لوظائف اعضائه الاساسية, وتمكنه منها بالتحكم العقلي العصبي فيها, وبدء ادراك مكونات البيئة حوله, وبدء الحاجة الي اثارة البيئة المحيطة وترك اثر بمفرداتها.
14. وهكذا يبدأ العقل فطريا بواسطة غريزة حب الاستطلاع والتعلم, في اكتشاف قدرات الجسد ووظائفه, ويتدرب علي استخدامهم تدريجيا لايجاد العلاقة الانتفاعية منهم, وفي نفس الوقت يربطهم بالبيئة المحيطة, استعداد للانتقال الي مرحلة الفعل وترك الاثر في البيئة والتفاعل معها.
15. ويتمكن الطفل خلال الاشهر الستة الاولي من ادراك  الالوان والتعبير بالابتسام والضحك وتغيير نبرة الصوت وتمييز الوجود والتحكم العصبي في حركة الرأس وفهم الكلام وحاسة اللمس والتذوق, وفي خلال السنة والاولي يتمكن من ممارسة سلوك الاكل والسمع و الكلام والزحف والجلوس والوقوف والرؤية الواضحة, ولا ينقصه الا المشي الذي يتمكن منه في سنته الثانية.
16. ويستمر هذا السلوك اللاارادي في ادراك الحواس وبعض مفردات البيئة المحيطة, لمدة اشهر معدودة, يلاحظ فيها المعيل (الام) تغير في استجابة الطفل وبدء استخدام تعبيرات الوجه والابتسام والقبض علي اصبع اليد وتغير في نبرة الصوت, ينتقل بعدها الي مرحلة الحركة والزحف انذار باقتراب مرحلة الانفصال الجزئي عن المعيل ومحاولة الاعتماد علي النفس بحسب قدرته الحركية التي يصل اليها, وكل مظهر من مظاهر السلوك الحركي هو دليل علي سلوك عقلي ارادي تمكن من السيطرة علي الجهاز العصبي للطفل وكون "خبرة سلوكية" الا ان علاقة هذا الخبرة بعامل الزمن لازالت مفقودة, فالطفل في هذه المرحلة ليس لديه ادراك لمفهوم الزمن.
ثانيا: مرحلة نمو السلوك الحركي والتعبير عن العواطف (من 1-2 سنة):
1.     في نهاية السنة الاولي تقريبا, يكون عقل الطفل استبدل سلوكه اللاارادي بسلوكه الارادي وان لم يكن مكتمل, ويكون كون خبرة في اشباع حاجاته الاساسية بطرق مختلفة بخلاف البكاء والصراخ, فمص الاصبع يكون مثلا دليل علي طلب الطعام, ويكون قد كون خبرة في التعامل مع الاشياء التي تسعده وتحفز غريزة التعلم والاستكشاف, وما هي الا شهور بسيطة ويبدأ في تقليد من حوله بالكلام والحركة حتي تكتمل عضلات الطفل ويتمكن من المشي.
2.     ولكل من الكلام والمشي مؤشرات رائعة في تعلم تكوين السلوك, فالسلوك كله يعتمد علي "غزيزة التعلم", والتقليد اداة من ادوات التعلم, ففي مرحلة بدء الكلام مثلا, يتعلم الطفل لغة من حولة لانه يقلدهم دون ان يدرس له احد اصول اللغة, وفي المشي, ان لم يجد الطفل من يأخذ بيده ليعلمه المشي, سيلجأ الي التعلم الذاتي بتقليد الاخرين, وبالتجربة والخطأ, ومن ثم بالاستعانة بالاستناد علي حائط او كرسي, حتي يكتسب خبرة المشي, وفي الكلام يظهر تأثير البيئة علي لغة الطفل واضحة الا انها مهملة لان القدرة علي الكلام اهم, وكذا في الحركة تظهر اثار عدوانية البيئة وخشونتها علي حركة الطفل ولكنها مهملة ايضا فالقدرة علي المشي اهم.
3.     وكل هذا النمو ما هو الا "خبرات سلوكية " تتميز بالعقلية والحركية والارادة, لها قيم ايجابية تحدث هدوء وسعادة, وقيم سلبية تحدث الم وتوتر, ومخزنة في عقل هذا الطفل, وحتي الان تمثل نواه لسلوك حركي ارادي مكتمل (لان السلوك الحركي في النهاية هو الدال علي السلوك العقلي) وان افتقد لاكتمال المعرفة ومعني الزمن.
4.     تنتهي هذه المرحلة تقريبا في السنة الثانية, ويكون الطفل قادر علي الانفصال الجزئي عن المعيل, وقادر علي الحركة الاساسية والكلام المبدئي, والتعبير عن الرغبات والعواطف بطرق مختلفة, والاعتماد علي نفسه في اشباع بعض الحاجات المناسبة والملائمة لقدراته وخبراته الجسدية والعقلية.
ثالثا: مرحلة تقدير الزمن وحدوث التوافق العصبي لاكتمال نمو السلوك (من 2-3 سنة):
1.     يبدأ الطفل بعد اكتساب مهارة (خبرة) الكلام والمشي والتعبير عن العواطف, في محاولات التأثير في البيئة المحيطة وتوقع وانتظار استجابتها, فيطلب الطعام مثلا ويتوقع ان يأتيه قبل ان يشتد جوعه, ولكنه في بعض الاحيان يتأخر, او يكون في سعادة مع لعبة ما ويتبول, فتأخذه الام لتغيير ملابسه ثم يعود لاستكمال اللعب, فيقدر الزمن الذي قضاه قبل العودة للعب, او ينتظر بدء تشغيل التلفزيون او الكمبيوتر لبدء لعبة ما, فيتعرف علي معني الزمن من خلال قياسه اثره في اشباع رغباته المختلفة, ويربط كل رغبة او سلوك بزمن تقديري, ومن ثم يتعرف علي معني السرعة المرتبطة بالزمن عندما يمشي من مكان الي مكان  ومن ثم يكرر نفس الحركة مسرعا ليسبق الكرة او يلحق بها مستهلكا طاقة اكبر.
2.     وبتكرار السلوك وتاكيد استنتاجاته المنطقية التي لا تختل علاقتها الفطرية (كعلاقة السرعة بالزمن او تعريف الحركة بمقدار الطاقة المستنفذه من الجسم), ومن ثم يقوم العقل في كل سلوك مستقبلي بربط خبرته التي اكتسبها سابقا "بخبرة وعامل الزمن" الذي ادركه متأخرة, فيتعدل سلوك الطفل الي سلوك ارادي مكتمل, ليس بمعني الصواب والخطأ ولكن بمعني اكتمال كل معايير ممارسة السلوك الارادي وعواملة الظرفية المكانية والزمنية, فالطفل هنا انهي سنته الثالثة تقريبا, يدرك معني الليل والنهار ومعني ميعاد الغذاء وميعاد النوم وزمن اللعب ومعني "كمان شوية" ومعني في البيت او في الشارع, ومعني الامر والطلب والخطر والامان, وينتظر الاستجابات التي ينشدها من اي سلوك يمارسه مرتبطة بالزمن والمكان, اصبح لديه قدرة ورغبة واستعداد.
3.     اصبح طفل عاقل مستقل, جاهز لاستقبال اي معرفة مناسبة لسنه وتحويلها لخبرة سلوكية ليستخدمها, جاهز لاستقبال واكتساب ما يقدمه له المجتمع والبيئة من "خبراته معرفية" تدريجيا, فاما يكتسبها "مخططة" عن طريق "نظام التعليم", واما يكتسبها عشوائيا عن طريق "غريزة التعلم", والفرق بين الاثنين كبير, ففي الحالة الاولي سيوفر الوقت والمجهود ويكتسب ما هو "خبره ايجابية" منتقاة من كم هائل من الخبرات البيئية, وموجهة لنشاط ما متكامل, ونافع له, ومناسب لقدراته ورغباته واستعداداته, اما الثانية فهي خبرات صدفية ظرفية, غير مكتملة الوحدة, وغير منظمة, تخلط بين الايجابية والسلبية, ولانها صدفية ظرفية, فقد يتصادف ان يكتسب الطفل كل ما هو سلبي غير نافع له بل ومضر. وهذا لا يعد انتقاص من قيمة غريزة التعلم فهي اساس عملية التعليم, وهي ملازمة لنشاط عقل الانسان, الا انها يجب ان تخضع للتحكم والسيطرة الذاتي والاجتماعي معا, لينضبط السلوك الذاتي والاجتماعي.
[نلاحظ  ان منهج تكوين عقل الطفل حتي الان, منهج رياضي استدلالي تجريبي يعتمد علي التقييم والمقارنة والترتيب والربط والاستنتاج, والتدرج من الجزئي الي الكلي, وقد اكتملت ادواته الحسابية "فطريا" – ونلاحظ ان تكوين شخصية الطفل حتي الان ارتبط بالفطرة, متأثر بتكوينه الجسدي والفروق الخلقية بينه وبين اقرانه, دون اثر يذكر للبيئة المحيطة حتي في اللغة, فهو لم يكتسبها بعد, ولكنه اكتسب مهارة التعبير عن العواطف بها]
 
رابعا: مرحلة تشكيل السلوك المستقل متأثرة بثقافة البيئة الخارجية (3- 16 سنة تقريبا):
1.     لقد مارس الطفل في المراحل السابقة, السلوك اللاارادي, ومن ثم طوره فطريا الي سلوك عقلي, ومن ثم ظهر السلوك الحركي, ومن ثم انتقل الي السلوك الارادي البسيط, وباكتشاف عامل الزمن وعلاقته بخبراته السلوكية السابقة تمكن الطفل اخيرا من الوصول الي حالة اساسية من التوازن والتوافق العقلي العصبي, وبذلك اكتمل نمو سلوكه, وهي مرحلة اساسية يتساوي فيها كل الاطفال بصرف النظر علي فروقهم الفردية الخلقية, ولا تأثير يذكر للبيئة المحيطة علي سلوك الطفل, بصرف النظر عن الاضرار الجسدية التي يمكنها ان تحدثها له, فتسبب فروق فردية جديدة تعيق بعض الوظائف الجسدية, وباكتمال هذه المرحلة يكون الطفل جاهز للتفاعل مع البيئة المحيطة به, متأثر بها ومؤثرا فيها, بحسب قدراته الخاصة, تبدأ مرحلة تشكيل السلوك والشخصية.
2.     وهذه المرحلة طويلة نسبيا, لانها تشمل كل "الخبرات السلوكية" التي يكتسبها الطفل تدريجيا وحتي مرحلة الشباب والفتوة واكتمال البناء الجسمي والبلوغ والقدرة علي تحمل مسؤلية الغير, وفي نهايتها تكون له "شخصية اجتماعية" مستقلة, تتضمن الثقافة المكانية والقيم والمبادئ والعقائد التي تمكنه من تحمل مسؤليته الاجتماعية واداء دور اجتماعي رئيسي (اب – ام – عامل) معرض للفشل والنجاح والذي يتأثر به شركاء اخرين, ويستحق المحاسبة والعقوبة القانونية علي سلوكه, فقد انتقل من طور الاعالة الي طور المسؤلية وان كان قد تدرب عليها في هذه المرحلة بطريقة او باخري, وبطبيعة الحال ونتيجة للفروق الفردية ولاختلاف الثقافات وخلل قواعد التنشئة الاجتماعية والتعليم, يحدث اختلاف في الخبرات المعرفية والسلوكية المميز للشخصية. (وسنتحدث لا حقا علي مفهوم التنشئة الاجتماعية والتعليم ومنظومته, ومفهوم المسؤلية الاجتماعية والتوقع الاجتماعي, ومفهوم الدور الاجتماعي, ومفهوم الانحراف السلوكي عن المتوقع الاجتماعي).
3.     تشترك كل انواع السلوك الارادي المسؤل او الهادف, في اعتمادها علي مفهوم "الخبرة السلوكية والمعرفية" المحفوظ في الذاكرة, والتي يكتسبها الانسان عن طريق غريزة التعلم الفطرية طوال مراحل حياته وتفاعلة بالبيئة المحيطة, ونتيجة لهذا فلا يتوقع لانسان ان يمارس اي سلوك ارادي هادف بنجاح, ما لم يكن قد اكتسب خبرته المعرفية علي الاقل سابقا, ليتمكن بها, من ابتكار خبرة سلوكية تمكنه من استخدام مثير جديد يتعامل معه لاول مرة, وفي غياب الخبرة السابقة يكون السلوك الارادي استكشافي فطري يتشابه مع اليات مرحلة الطفولة, ويمكن القول بان [الخبرة المعرفية وحدة واحدة كلية متكاملة, رغم تكوينها من كم هائل من الخبرات السلوكية الخاصة والمتنوعة, ويمكن للعقل ربطها اراديا في اي وقت عن طريق "التفكير" ليستنتج خبرات معرفية جديدة, لا يشترط صحتها او نجاحها, الا بتجريبها سلوكيا].
4.     وبالتالي لمعرفة القدرات السلوكية لا شخص, يجب ان نكتشف "خبراته السلوكية" التي اكتسبها طوال فترة حياته, عن طريق تتبع مصادرها المعرفية ومحتواها, لنعرف ما يقدر هذ الشخص علي ممارسته من سلوك وما لا يملك خبرته فلا يستطيع ممارسته.
5.     وفي هذه المرحلة من عرض الموضوع, لا يجب ان نبتعد عن الموضوع الاساسي لهذا المحتوي, وهو التعرف علي ما هية السلوك بصفة عامة, كيف يتكون وكيف يتعدل وكيف يتطور, وخصائصه التي يمكن ان نستغلها في التنشيئة الاجتماعية وادارة المجتمعات, وليس هدفنا او موضوعنا هو تشخيض حالة سلوكية وتحليها لعلاج مشاكلها النفسية.
6.     ولنترك هنا مصطلح "السلوك" قليلا, ونركز علي ماهية "الخبرة السلوكية"؟ وكيف تتكون؟ ومراحل تطورها؟ لانها في النهاية ستفسر السلوك الذي يميز الشخصية والتي نستهدف التحكم في خصائصها عن طريق الادارة المجتمعية لتكون شخصية اجتماعية منشوده:
a.     وصلنا فيما سبق الي انه بعد ثلاثة سنوات تقريبا, يكتمل نمو السلوك الارادي, والذي يتضمن خبرة واحدة او خبرات محدودة لكل غريزة انسانية لدي الطفل, وهذه الخبرة المحدودة تمكن الطفل من التحكم والسيطرة علي قدراته الحركية  الخاصة, بتوازن وبحسب قدراته الجسدية المتاحة, وخلصنا الي ان هذا الطفل مؤهل لاكتساب خبرات سلوكية جديدة عن طريق "غريزة التعلم" الفطرية العشوائية, او عن طريق "تنشئة اجتماعية" و"نظام تعليمي" يضبط ويوجه غريزة التعلم لما فيه الفائدة, بقبول الخبرة الايجابية ومنع وعلاج الخبرة السلبية, ليبدأ سلوك الطفل في التكوين والنمو عن طريق تراكم الخبرات السلوكية المتدرجة المتناسبة مع تدرج نمو قدراته الجسدية.
b.     ويتوالي انتقال الخبرات السلوكية الي الطفل, عن طريق "التقليد والمحاكاة" و "التلقين" و"التدريب" و "التجربة والخطأ", ليعمل عقله بعد ذلك علي استنتاج "قيم اشباعية" لكل سلوك يمارسه مرتبطة بمجموعة من القيم النوعية لمفردات هذا السلوك, فاذا قلد امه مثلا في حمل كرسي لنقله من مكان لاخر, فيكون مارس سلوك التقليد, وممارسة اي سلوك ينتج عنه نجاح او فشل وسعادة او الم, وبحسب النتيجة التي حصل عليها الطفل من ممارسة تحريك الكرسي, يسجل العقل قيمة تعريفية لهذا السلوك فاذا كان يحدث سعادة  فستكون القيمة ايجابية, ويقوم الطفل بممارسته مرة اخري, واذا احدث الم يسجله العقل بقيمة سلبية, وبحسب قوة الالم يمكن ان يكون شديد فيبتعد الطفل نهائيا عن هذا الكرسي, او الم ضعيف يكشف للطفل عن قوة تحمله للالم, وقد يدفعه الي تحريكه مرة اخري بدافع التجربة وليس التقليد هذه المرة, لان التقليد لم يحدث له سعادة كانت متوقعه, وبممارسة مثل هذا السلوك, يسجل العقل قيمة اجمالية للسلوك ومجموعة من القيم المرتبطة بالفعل, قيمة للتقليد وقيمة للكرسي (ثابت او مهتز او وقع علي الارض او ملمسه حديدي او خشب) وقيمة لاي عائق منعه من تحريك الكرسي, وقيمه لقوته العضلية...الخ, وبعدما كان العقل يضم عدد محدد من القيم للاشياء والخبرات الاساسية  اللازمة لعمل العقل(الحفظ والتقييم والترتيب والتصنيف), اصبح لديه قيم اضافية يجب عليه حفظها وتخزينها في مواقعها الصحيحة ليتمكن من تذكرها وسرعة استدعائها, فيضيف هذه القيم الي "الذاكرة" وتسمي وروابطها كاملة "خبرة سلوكية" وان تضمنت "خبرة معرفية", لانها اعتمدت في اكتسابها علي الممارسة وليس التشغيل العقلي للمعرفة والتخيل.
c.     وهنا يمكن ان نفرق بين "الخبرة المعرفية" الناتجة عن ادراك الحواس والعقل, وبين "الخبرة السلوكية" الناتجة عن ممارسة الفعل سواء كان تأثير او استجابة, والتي ينتج عنها خبرة واقعية مؤكدة مرتبطة بقدرة الانسان وخبراته السابقة, ويجب ان نلاحظ مصطلح "القيمة" لانه اول  دليل لتصنيف وترتيب نوع الخبرة في العقل.
d.     كل يوم يمر علي حياة الانسان, يمارس فيه نشاط جسمي او عقلي (سلوك) يكتسب منها "خبرات سلوكية ومعرفية", منها الجديد ومنها المتكرر, فيقوم العقل بنفس الالية السابقة بتقييم الممارسة وتخزين القيمة الجديدة للخبرات الجديدة في اماكن ارتباطها , ويقوم بتعديل قيم الخبرات المتكررة ليس بحسب القيمة الجديدة فقط, ولكن بواسطة معاملات خاصة تأخذ في عين الاعتبار عدد مرات التكرار واعلي قيمة اشباع حققتها هذا الخبرة واقل قيمة حققتها, وتقارن بالنتيجة الجديدة لحساب المتوسط الجديد, مع حفظ اسعد قيم الخبرة واسوأ قيمها في الرابطة, وهناك بالطبع خبرات ذات قيمة عالية جدا لانها احدثت اشباع وسعادة عالية القيمة, والعكس صحيح ايضا, وكل هذه القيم مرتبة ومصنفة بالعقل ومرتبطة بدرجة اشباعها والحاجات التي ترتبط باشباعها او فشلت في اشباعها, يمكن ان نسمي هذه الحالة "بالخريطة العقلية" او "المكتبة العقلية" التي لم يكتشف حتي الان تحديدا طبيعة عملها, ولكن نتخيلها نظريا وصولا الي نتيجة ما.
e.     بعد عدة سنوات من الاحتكاك بالبيئة المحيطة وممارسة السلوك, واكتساب الخبرات السلوكية والمعرفية, واجراء المقارنات المتكررة عند ممارسة نفس السلوك ومقارنات اخري معرفية عند وصف الاخرين لنتائج ممارستهم لنفس السلوك وتبادل الخبرات, تستقر قيم "الخبرات" المتكررة والجديدة المؤكد صحة تقيمها عقليا, ويقوم العقل بترقيتها في التصنيف وربطها ببعض في مجموعات بعلاقة موضوعية  تمثل "مبدأ سلوكي". ولا يجب ان يفهم من هذه, ان المبادئ  تتكون اراديا بفعل امر في سن معين, بالطبع لا فهي تتكون تدريجيا مع وجود القيم وعمل العقل في الترقية المستمرة لها.
f.       والمبدأ السلوكي, هو تجميع قيم عليا تمثل خبرات سلوكية لموضوع ما, بما يحتويه من كل الخبرات الفرعية المرتبطة به, وتكون درجة اشباعها لحاجات الفرد مؤكدة و مستقرة,  مثلا مبدأ لممارسة السلوك داخل الاسرة والاقارب واطاره وممنوعاته ومسموحاته وادابه وعقوباته, ومبدأ اخر لمعاملة الاصدقاء, ومبدأ اخر لتحصيل العلم ...الخ وكلها مبادئ تحدد الاطار الحاكم لممارسة سلوك ارادي في موضوع معين بما تقتضيه المصلحة الشخصية التي يعرفها الانسان, متضمنة تلافي العقوبة ومتوقعا المستقبل والنتائج, ويجوز فيها المخالفة التجريبية, وهذا المبدأ يمنع ويدفع الانسان لممارسة السلوك النمطي, ويتحكم في الحاح الغريزة والسيطرة عليها, كان يريد انسان التخلص من القاذورات, فاذا كانت لديه "قيم" تمثل "مبدأ" مانع للتخلص من القاذورات في البيت او في الشارع, سيكون سلوكه الارادي هو تحمل المشقة وحملها والتخلص منها في المكان المخصص, وسواء كان رابط هذا المبدأ, دافعه خوف من العقوبة او كان رغبة انتفاعية من اتباع النظام, يظل ثابتا في القوة حتي يستبدل بمبدأ اخر اعلي قيمة يسيطر علي نمطية نفس الموضوع.
g.     وهكذا تتكرر ممارسة السلوك الارادي مستخدم "المبادئ" كمحدد نمطي ومسيطر وضابط وحاكم علي الغرائز والرغبات والاستجابات, وكما حدث مع مفهوم القيمة يحدث مع مفهوم المبادئ, ينتج من التكرار تعديل وتأكيد واستقرار مبادئ (استنتج العقل قيمتها ولم تملي عليه), ومن ثم يقوم العقل بعملية ترقية وربط لمجموعة من المبادئ  المتكاملة والمؤكدة والمستقرة والمترابطة, لتمثل له "عقيدة عقلية", وهي اعلي تصنيف للخبرات السلوكية والمعرفية, وبالطبع اعلي قدرة علي التحكم في السلوك وضبطه ولا يجوز مخالفتها ولا بدافع التجريب الا بواسطة عقيدة عقلية اقوي منها.
h.     و"العقيدة العقلية", هي مجموعة من المبادئ المترابطة والمؤكدة والمستقرة عقليا, والتي تتضمن اعلي قيم اشباع لمجموعة مرتبطة من المبادئ التي تتحكم في السلوك ولم يجد العقل نقد مقنع لها, وهي تمثل محدد سلوكي او اطار سلوكي متكامل لتحديد "الشخصية" ولا يجوز له مخالفتها ذاتيا الا نادرا تحت تأثير مثير اقوي منها, ويمكن القول بان "الشخصية" لا تكتمل الا باكتمال "العقيدة العقلية", والعقيدة العقلية  هنا لا تعني باي حال من الاحوال مصطلح "العقيدة الدينية" الشائع الاستخدام, بل يمكن تقسيمها الي ثلاثة انواع رئيسية [عقيدة دينية – عقيدة اجتماعية- عقيدة علمية] , وكلهم مرتبطون مع بعضها البعض ويؤثر كل منهم في الاخر, ويضبط "سلوكه" ويعدل "مبادئه" اذا تعارض معه اوحاول المخالفة, واذا تطور او تعدل او تبدل احد هذه العقائد  تأثر السلوك الناتج من استخدام العقيدتين الاخريين, ورغم ان لكل عقيدة خصائصها السلوكية المميزة , ولكل عقيدة استقلال ومنهج ومبادئ خاص, الا انها تظل مبادئ حتي تتمكن من التوافق والتكيف مع العقيدتان الاخريان (بالنسبة للفرد وليس بالنسبة للعلم – فلا يشترط ان تتطابق العقيدة العقلية للفرد مع العقيدة العلمية المستقرة في المجتمع او حقيقتها), ويمكن للانسان استخدام هذه العقائد كل في موضوعه بصفة مستقلة "اراديا".
i.        والشخصية بعد تكوين العقائد, هي الاختلاف الذي يحدث بواسطة اختلاف محتوي "العقيدة", فمثلا في العقيدة العلمية والتي يمكن وصفها والاستدلال عليها بتخصص الانسان العلمي او بمنهج التفكير العلمي الذي يتبعه, فنجد اختلاف في شخصية من تخصص في الرياضيات عن من تخصص في التاريخ ومن تخصص في الطب ومن تخصص في العلوم العسكري...الخ, لان محتوي العقيدة العلمية في كل حالة يتماثل مع الخبرات العلمية التي اكتسبتها الشخصية, وكذا العقيدة الدينية, سنجد اختلاف المحتوي يؤثر في اختلاف الشخصية بما يتضمنة من قيم ومبادئ مختلفة, وبالمثل العقيدة الاجتماعية, ولان هذه العقائد تكونت عبر سنوات عديدة من تكرار ممارسة السلوك, فبالتالي فهي خلاصة ما اكتسبه الانسان من خبرات وروابطها خلال كل هذه السنوات.
j.       ونلاحظ ايضا ان تلك العقائد مرتبة, بحسب قدرة كل منهم علي اشباع اكثر قدر من حاجات ورغبات الانسان, فتعلوا العقيدة الدينية لانفرادها باشباع حاجات دنياوية واخراوية لا يحققها غيرها, ومن ثم يليها العقيدة الاجتماعية والتي تم تكرارها والانتفاع منها طوال فترة العمر رغم انها سابقة عن العقيدة الدينية, ومن ثم العقيدة العلمية التي اكدت علي صحة مبادئ العقيدتين الاخرين وقيمهما وقبلتهم وضبطت منطقهم, وطورت الفطرة العقلية.
خامسا: مرحلة تطور العقائد بتطور اكتساب الخبرة وحتي فترة الكهولة:
1.     لا يقف امر تطور السلوك عند تكوين الشخصية وما تحمله من عقائد ثلاثة, وبدء فترة الشباب, بل يستمر الانسان في التفاعل واكتساب خبرات جديدة وتكرار الخبرات القديمة في اطار قيمي عقائدي , ومع كل ممارسة وخبرة جديدة تتأكد وتتطور وتنضبط "العقائد" او ينكشف خلل العقيدة فيتبدل بغيرها, وقد تنهار المعتقدات والمبادئ عامة, بفعل اكتساب خبرة جديدة تترك اثر سلبي قوي يتعارض مع مبادئ العقيدة, ويستدعي مراجعتها العقلية, واضافة خبرات سلوكية ومعرفية جديدة لاكتشافها وتصحيحة.
2.     وبنفس اليه "اكتساب الخبرات السلوكية" وفعل "غريزة التعلم", يتطور السلوك ايجابيا وسلبيا بحسب نوع الخبرة وقيمتها, الا انه بعد فترة من العمر في نهاية مرحلة الرشد والاقتراب من مرحلة الكهولة,تقل الدافعية لغريزة الاستكشاف وتقل طاقة الانسان وتصل العقيدة العقلية الي قمة ترابطها واستقرارها, ويكون من الصعب تعديلها او تطويرها او تبديلها, وان حدث فغالبا ما يحدث صدمة نفسية, لشك صاحب العقيدة في كل ما اكتسبه من خبرات طوال حياته, مضاف اليها قلة وضعف الطاقة والامل في التصحيح.
3.     والعقائد العقلية بصفة عامة مرتبة بحسب قوتها وتحدد الاتجاه العام الفكري "الايدولوجي" للشخصية, فاذا كانت العقيدة الدينية رغم انها الثانية في ترتيب النشأة اقوي من الاجتماعية والعلمية, كان الاتجاه العام لسلوك هذا الشخص منقح او مراقب او مفلتر بواسطة العقيدة الدينية (اي قد تقوده خبراته السابقة لاتخاذ قرار ارادي لممارسة سلوك ما وفق للعقيدة العلمية والاجتماعية, ومن ثم تمنع العقيدة الدينية من ممارسته, وقد تقوده خبراته السابقة الي اتخاذ قرار لممارسة سلوك ما وفق العقيدة الدينية, ولا تملك العقيدة الاجتماعية او العلمية ان تعارضت معها من منعه), وبالمثل اذا كانت العقيدة العلمية اقوي او الاجتماعية اقوي, لتكون العقيدة العقلية الاقوي هي الاطار الذي يمنع الشخصية من ممارسة سلوك مخالف لها, وان خالفها تستدعي الشعور بالقهر والتوتر والذنب والفشل لانه خالف معتقده, حتي وان حدثت منفعة ما يظل هذا الشعور قائم, حتي يتمكن من نقد العقيدة وتبديلها او تبرير السلوك بما يحقق له الاستقرار النفسي.
4.     والعقيدة العقلية ليست نصوص او مفاهيم كلية, ولكنها تفصيلية بحسب المبادئ والخبرات, ومقسمة الي انواع وموضوعات , فنجد مثلا العقيدة الاجتماعية تتضمن العقيدة الثقافية والبيئية والتربوية والسلوكية والسياسية والقانونية وكل ما يعرف بالعادات والتقاليد والعقود الاجتماعية والادارة, وبالمثل العقيدة العلمية تتضمن العقيدة التعليمية والتحليلية والتخصصية والمعرفية والثقافية والمنهجية والمنطقية والبيئية ...الخ , ونلاحظ تكرار بعض العقائد الفرعية في العقيدة الاجتماعية والعلمية, وعدم تكرار البعض الاخر, بما يعني ان بعض انواع السلوك تحدده عقيدة واحدة  بما لا يتعارض مع باقي العقائد, وبعضه تحدده اكثر من عقيدة.
5.     واهمية موضوع العقائد وفهم قوتها وابعادها, يفيدنا بالطبع في تفهم الظواهر الاجتماعية خاصة التعصب واعادة التأهيل لكبار السن وضبط سلوكهم والذي يختلف عنه في مراحل الشباب والرشد, ويفيدنا في تفسير تحجر مفاهيم وسلوك كبار السن وعدم قدرتهم الذاتية علي تصحيح وتعديل عقائدهم العقلية, وبالتالي فتحتاج هذه العملية الي معالجة تعامل خاص.
لقد بينا نظريا, سيناريو تكوين السلوك الانساني ومفرداته العقلية, والتي تمكن الانسان من السيطرة علي سلوكه والتحكم فيه ذاتيا وبدون اي تأثير للبيئة الخارجية والاجتماعية عليه, ولم نذكر اثار الفروق الفردية علي هذا النمط السلوكي, الموصوف بالسيناريو الافتراضي السابق, والذي كان هدفه اظهار مفهوم اكتساب الخبرة المفردة وتكوين القيم والمبادئ  والعقائد العقلية بمعزلة عن اي مؤثرات نوعية تحدد خصائصها, او اي مقارنة بحقيقة وصحة هذا السلوك او القيم والمبادئ والعقائد, فقد يكون كل ما اكتسبه الانسان من خبرات وقيم وعقائد غير صحيحة ولا تمثل حقيقة, الا ان هذا لا يغير من تصنيفها او ترتيبها او روابطها العقلية او حقيقة قدرتها علي التحكم والسيطرة علي السلوك وتوجيهه في الاتجاه التي "اكتسبته".
ولا شك في وجود "مؤثرات" خارجية وداخلية متعددة تؤدي الي اختلاف محتوي الخبرات التي تكونت بها الشخصية واختلاف خصائص الشخصية, والا لاصبح الناس كلهم بنفس الشخصية, الا ان التعرض اليها قد يخرجنا عن موضوع هذه الرؤية وهدفها, ولذا سنكتفي بالاشارة الي وجودها والاعتراف بتأثيرها دون بحث تفصيلها, ودون اغفال لاهميتها, ليتم التعامل مع كل مؤثر كحالة خاصة مرتبطة بمحيطها المتكامل
ولا يجب ان نغفل ان دراسة ومعرفة المؤثرات السلوكية تفيدنا في التخطيط الاجتماعي (اداري وتنشئة وتعليم) لتعزيز المؤثرات الايجابية وعلاج السلبية, وكذا ينجينا من جلد الذات او لوم الاخرين علي سلوكهم وشخصيتهم, رغم انهم لم يكونوا مسؤلين عن محتواي سلوكهم واختلاف شخصيتهم,  لوجودهم في ظروف او بيئة لم تكن متوافقة مع التوقع الاجتماعي وتعرضهم لمؤثرات سلوكية قوية اهملها المجتمع.
فالطفل الذي نشأ في بيئة عشوائية اهملها المجتمع,  يسودها الجريمة والجهل وعدم الرعاية, مهما حصل علي فرص تعليمية منفصلة عن منظومة تنشئة اجتماعية وقوانين ورقابة, فسيكتسب خبرات سلبية من الصغر بالتقليد والمحاكاة  والتلقين والممارسة الفعلية والاستجابة لمؤثرات البيئة, وسيكتسب مبادئ سلوك هذه البيئة في التعامل مع المجتمع النظامي الذي اهملها, وفلسفة واساليب اغتصاب الحقوق الضائعة وتعويض النقص.
سلوك هذا الطفل في بيئته المحيطة او مجتمعه الصغير طبيعي غير منتقد, الا انه بالمقارنة مع اقرانه الذين نشأوا في بيئة اخري غير عشوائية مختلف ومنتقد من الاخرين, رغم تلقيه نفس المقررات الدراسية في نفس المدارس وبواسطة نفس المدرسين تقريبا, والفرق بين هذا الطفل اوهذا الشاب واقرانه ليس الا "البيئة الحاضنة" و "المعيل" ومؤثراتها السلوكية, فاذا تمكنت الادارة الاجتماعية من انقاذ هذا الطفل من بيئته او انقاذ هذه البيئة العشوائية نفسها وضبط سلوكها, فقد تكسب في المستقبل مورد بشري يمثل "عالم ومخترع" باختراع واحد يمثل لها ثروة اقتصادية هائلة.
وحتي في البيئة الغير عشوائية والتي هي مختلفة عن بيئة اخري اكثر رقي وتحضر منها, فتأثير الاصدقاء وغياب القانون والرقابة وعشوائية النظام يمكن الطفل من فرص تجريب الخبرات السلبية واكتسابها, فنجد اثنان من الاطفال في نفس الشارع ونفس المبني ونفس العمر ونفس الوسط الاجتماعي الاسري ونفس المدرسة ونفس المقومات الصحية والجسمية, الا انه بعد عدة سنوات تختلف شخصيتهم وسلوكهم, فتجد احدهم متوافق مع التوقع الاجتماعي والاخر مخالف وغير متوافق مع التوقع الاجتماعي, ولو تتبعنا الحالة سنجد التوافق كان مستمر بينهما ومن ثم اختلف في مرحلة ما, لاختلاف الصداقات او تعرض احدهما لخبرة قوية سلبية لم تجد من يراقبها ويعالجها فدفعته خارج المسار, واستمر في تطوير خبرته السلبية وتكوين انحراف سلوكي عن المتوقع.
_______________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
(تحت المراجعة)
المرض والالم وعدم الرقابة وتفكك وانفصال وحدة القانون والاهمال وغياب الامن والعدل من اقوي المؤثرات علي نوعية وموضوع الخبرات المكتسبة التي تكون السلوك, والانسان وخاصة في الصغر تكون دافعيته الغريزية فردانية وانتفاعية يسعي للانبساط ويتجنب الالم, ولعقله القدرة علي التكيف مع قوانين المجتمع ومعطياته, فان لم تكن القوانين والمعطيات منضبطة, تمكن من التكيف مع ثغراتها وسلبياتها التي تشبع حاجاته وتسعده حتي وان كانت سلبية, فان لم يتوقع المجتمع هذه السلبيات وعالجها, نشأ الطفل عشوائيا واكتسب خبرات عشوائية صدفيه كما اوضحنا من قبل, وغابت "الشخصية الاجتماعية النموذجي" وحل محلها الاف الشخصيات التي يظن كل منها انه نموذجي رغم انه صدفي, وحظه فقط هو من صنع منه سلوك وشخصية مقبولة انسانيا. وعندما يكون الحظ  والصدفة هي معيار النجاح يكون النظام عشوائي لا معني فيه للعدالة او العلم.
شكل رقم 3 مسارات اكتساب الخبرات السلوكية وتكوين الشخصية
 
معايير النجاح في اكتساب اعلي قيمة للخبرة:

   

حتي يكتسب الانسان خبرة جديدة, فلا بد له اولا ان يمارس سلوك يؤدي الي اكتساب الخبرة, وحتي ينجح اي انسان في ممارسة اي سلوك  ارادي, حتي سلوك التعلم واكتساب الخبرة, لا بد ان يتوافر له ثلاثة شروط او معايير, وهي: "التوقع" "القدرة" و "الرغبة" و"الاستعداد".
 
التوقع هنا يعني المعرفة الصحيحة الكاملة لسلوك اكتساب الخبرة وموضوعها والهدف منها متضمن "السلبيات" و"الايجابيات", فنحن نكتسب الخبرات لاستخدامها في المستقبل, وليس لاستكشافها ولا لتجريبها وان كان لهما (الاستكشاف والتجريب) دور واهداف اخري كطريقة من طرق التعلم واكتساب الخبرة, فمثلا لاكتساب خبرة في الطب, يجب ان احدد الهدف من اكتساب الخبرة, ما اذا كان الهدف هو العمل بها كطبيب او استخدامها في الاسعافات الاولية للطوارئ, ومن ثم اعلم موضوعها وانها ترتبط بجسم الانسان والالم والدماء وتكسير العظام, وفرحة المريض بعد العلاج, وتتطلب قوة اعصاب وتحمل ومهارات خاصة, ومسؤلية عن ارواح الاخرين, وتتطلب وقت وجهد طويل في البحث والتعلم المستمر وبعد عن الاهل والاسرة وانشغال مستمر بالعمل, وليس كل طبيب ناجح ولا كل طبيب ثري فالنجاح والثراء مرتبط بالكفاءة والمسؤلية والانتظام, فاذا اختصر الانسان كل هذه الايجابيات والسلبيات في المظهر الخارجي للطبيب او وضعه المادي او قدوة يريد ان يقلدها, قد يتعرض للفشل اثناء اكتساب الخبرة واثناء ممارسته للخبرة او المهنة بعد اكتساب الخبرة, فقد لا تتحمل اعصابه استخدام المشرط الجراحي او منظر الدماء وقد يقشعر بدنه من رؤية ميت وقد لا يتحمل عقله التركيز مع اللام المريض, وقد لا يتمكن من الاستمرار في البحث والدراسة فيما بعد, كونه عاطفيا مرتبط بالاولاد والاسرة, وقد يكره خبرته ووظيفته التي اجبرته علي الابتعاد عن الاسرة في اوقات شدة لنجدة مريض ... الخ, اما اذا توقع الانسان موضوع الخبرة التي قرر اكتساب مهارتها, وقارن بين ايجابياتها وسلبياتها, تمكن من رؤية مستقبله علي اساس هذا التوقع بشكل اقرب الي الصحة, وتمكن من المقارنة بخبرات اخري يمكنه اكتسابها تحقق له اهدافه واشباعات افضل لحاجاته, دون التعرض لصدمات الفشل, واعتقد ان هذا المثال التوضيحي ينطبق علي كل موضوعات اكتساب الخبرة او القيام بادوار اجتماعية سواء كانت رئيسية او ثانوية او هامشية.  
القدرة هنا تعني توافر القدرة الجسدية والعقلية لممارسة السلوك متضمنة الخبرات السابقة الاساسية لادراك مفردات هذا السلوك, فلا يمكن مثلا ان يمارس قعيد سباق الدراجات, لانه لم يكتسب اساسا خبرة ركوب الدراجات وهي خبرة سابقة للمشاركة في السباقات.
 الرغبة هنا مقصود بها وجود دافع عقلي لاثارة هذا السلوك لانه ذو قيمة تحدث سعادة وتمتع في النفس ويكون قدرها الزمني مساوي للزمن اللازم لممارسة السلوك,وبالتالي تكون رغبة فعلية وليست ظنية, والفرق بينهما, ان الرغبة الظنية مؤقتة قليلة المعلومات لا تري الا ايجابيات السلوك, اما الرغبة الفعلية فهي مستقرة وتشمل معظم المعلومات عن ايجابيات وسلبيات السلوك, وقد قيم العقل الايجابيات بقيمة اعلي من السلبيات ورضي بكلاهما, وفي العموم الرغبة مرتبطة بالتوقع الصحيح للخبرة او للدور الاجتماعي, ويمكن القول بان الرغبة هي النتيجة المباشرة للتوقع الصحيح, الا ان دور التوقع الصحيح لا يظهر في كل اشكال السلوك, فالاستجابة مثلا وان تضمنت توقع قد لا تتضمن رغبة وان تضمن رغبة قد لا تتضمن توقع.
الاستعداد هنا مقصود به توافر الزمان والمكان والظرف المناسب لتلقي الخبرة وممارستها, دون ان تتعارض مع رغبات سلوكية اخري اعلي منها في القيمة, كأن يرغب الانسان في حضور مجموعة تعليمية لعدة ايام في موعد محدد,في مدينة اخري ولديه الوقت والمكان ويفتقد للوسيلة المنتظمة, فهنا يكون استعداد الشخص لممارسة السلوك ناقص او معيب يمنع او يؤثر في نجاح اكتساب الخبرة, ويقصد بالاستعداد ايضا القابلية النفسية للتعلم واكتساب خبرات موضوعية جديدة في مكان وزمان معين ولفترة زمنية محددة.
 الخلاصة :

لخدمة موضوعنا و هدفنا الاساسي من هذا المحتوي والذي هو ايجاد "نموذج اداري مجتمعي علمي", نقوم باستعراض الموضوعات العلمية التي تمكنا من تفهمه وتحديد اطاره العام, يمكن ان نستخلص من هذا الفصل الاتي:
1.السلوك هو كل نشاط جسمي او عقلي يصدر من الكائن الحي.
2.الية السلوك او "التفاعل السلوكي",تبدأ بظهور مثير (داخلي او خارجي) ,احساس بالاثر, ادراك عقلي لنوع المثير, تحفيز غريزي للاستجابة لاثر المثير (ابطال الالم او تمديد السعادة او الاستكشاف), تكوين الدافع السلوكي , البحث عن خبرات سابقة لصدور الاستجابة, تقرير شكل الاستجابة , ممارسة سلوك الاستجابة (والتي يمكن ان تمثل مثير للغير, تعدل من اثرة وتتطلب استجابة اخري), مراقبة وتقيم مفردات التفاعل السلوكي, تسجيل القيم في الذاكرة في شكل روابط تمثل خبرة, تصنيف الخبرة لسلوكية ومعرفية, اشباع الغريزة وانطفاء اثر المثير.
3.السلوك متعلم عن طريق غريزة التعلم, وهو متدرج يبدأ من السلوك الجسمي اللاارادي, فالسلوك العقلي اللاارادي, ومن ثم السلوك الجسمي اللاارادي ومن ثم السلوك العقلي الارادي, ومن ثم السلوك المتكامل باكتساب خبرات الزمن والتوازن العقلي العصبي .
4.كل انواع السلوك اللاارادي تعتمد علي "الفطرة"وتنتج عنها "خبرات سلوكية", وكل انواع السلوك الارادي تعتمد علي "الخبرات السلوكية السابقة" .
5.الخبرات السلوكية تكتسب عن طريق غريزة التعلم, فاما ان تكون عشوائية ظرفية صدفية, تكتسب السلبي والايجابي بدون تحكم او ضبط او سيطرة, واما ان تكون منظمة ومخططة لقبول الايجابي فقط وعلاج السلبي ان حدث, وينتج عن هذا التصنيف "الشخصية الذاتية" و "الشخصية العشوائية" و "الشخصية الاجتماعية المتوقعة" بما تتضمنه الانواع الثلاثة من اختلافات.
6.الخبرات العقلية تنقسم الي خبرات سلوكية وخبرات معرفية.
7.الشخصية هي السلوك المتوقع من اي انسان اعتماد علي ما يحمله عقله من "خبرات سلوكية ومعرفية" متكاملة تعمل كوحدة واحدة.
8.يربط العقل البشري الخبرات السلوكية ويصنفها ويرتبها في الذاكرة, لسرعة الاستدعائها وصدور الاستجابة, الي "قيم معرفية", "قيم سلوكية", "مبادئ موضوعية", "عقائد عقلية".
9.العقيدة العقلية هي اقوي ضابط ومتحكم ذاتي في تحديد شكل السلوك, بالاختيار بين القيم والمبادئ, وتقسم الي ثلاثة انواع, هم "العقيدة الدينية" و "العقيدة الاجتماعية" و "العقيدة العلمية", ويمكن اضافة "العقيدة الذاتية" في حالة ضعف قوة الثلاث عقائد الاساسية, فيوصف الانسان ب "الذاتية".
10.للشخصية الواحدة نوعان من السلوك (سلوك الذاتي وسلوك الاجتماعي), يعتمد كل منهما علي "الموقف التفاعلي", و"القيود الخارجية" الضابطة للسلوك, ففي الحالة الذاتية تنعدم القيود وفي الحالة الاجتماعية تكون القيود ضابط لشكل السلوك بالاضافة للمعتقد.
11.لممارسة اي سلوك ارادي بنجاح وخاصة المركب وسلوك اكتساب الخبرات و الادوار الاجتماعية, يجب ان تتوافر اربع معايير اساسية, وهي "التوقع", "القدرة", "الرغبة", "الاستعداد".
واذا اتفقنا علي هذه الخلاصة, وتفهمنا ابعدها, اعتقد نكون قد عرفنا معني مبدئي عام "للسلوك", قد يكون غير متخصص, ولكنه كافي لتفهم الموضوعات التالية واستنتاج استخدامتها, ودورها في بناء "نموذج ادارة مجتمعي علمي", فاستيعاب منطق عمل السلوك الفردي خبرة اساسية للوصول الي مفهوم السلوك المجتمعي.
واتعجب اشد العجب ممن يدير منظومة اجتماعية وهو لا يدرك مفهوم السلوك ولا يهتم به.