الأربعاء، ديسمبر 02، 2015

تكملة رؤية "النموذج الاداري المجتمعي" الاسترشادي

الفصل الثاني
(السلــــــــــــوك المجتمعـــــــــــي)

علم النفس الاجتماعي:
 هو فرع من فروع علم النفس يدرس السلوك الاجتماعي للفرد والجماعة، كاستجابات لمثيرات اجتماعية، وهدفه بناء مجتمع أفضل قائم على فهم سلوك الفرد والجماعة.
علم الاجتماع:
 هو "علم يهتم بدراسة الحياة الاجتماعية للانسان وظواهرها المجتمعية", وهو "علم دراسة التفاعل الاجتماعية".
للمجتمع تعريفات متعددة تختلف باختلاف العلم الذي يصفها والهدف من التعريف, وقد عرفها العديد من علماء الاجتماع وعلماء النفس الاجتماعي والعلوم الاجتماعية بصفة عامة, كل بحسب مشكلته البحثية التي يدور حولها, ولا يوجد اختلاف كبير يذكر, في تعريف المجتمع, ولا اختلاف علي معاملة المجتمع كوحدة او تنظيم واحد, يتأثر سلوكه الاعتباري ومنتجه باختلاف سلوك اعضائه.
هذه التعريفات تنطبق علي اي تجمع بشري مؤقت او دائم, سواء كان اسرة او مؤسسة او قبيلة او جمعية او دولة...الخ, الا انها تعريفات عامة لا يستهدف خصائص معينة للمجتمع, بينما ما نبحث عنه في هذه الرؤية هو "مجتمع الدولة المنظم" والذي هو بالطبع صورة من صور المجتمع في كل العلوم.

س: ما هو مجتمع الدولة المنظم؟
تعريف مجتمع الدولة المنظم: "هو تنظيم اداري منفتح لمجموعة من الافراد, مرتبطة بحيز محدد من الارض, تربطهم علاقة تعايش دائم, وفق عقد اجتماعي محدد عن طريق الاتفاق العام, يضمن امنهم وحفظ حقوقهم, ويسعي لتطورهم, ويعمل علي مساعدتهم في تحقيق اهدافهم الشخصية, بما لا يتعارض مع اهداف المجتمع العامة او حقوق الاخرين, وتشكل السمات الشخصية لافراده "الشخصية المجتمعية الاعتبارية للدولة" .
ورغم طول هذا التعريف المقترح, الا انني اعتقده شامل لتوصيف المجتمع المعروف او المحدد بالدولة , والدولة التي ما هي الا تنظيم اداري يحدده المجتمع, ذلك التوصيف الذي يشكل منظومة يمكن ان تنهار بانهيار احد اركانها "مجتمع" او "دولة".
وينشاء عن هذا التعريف علاقة شرطية بين "المجتمع" في العلوم الاجتماعية وخصائصه, وبين "الدولة" كتنظيم اداري في العلوم الادارية,[[[ كانت المجتمعات فيما سبق لا تعرف نظام الدولة ولذا لم تكن تستخدم مفهوم الادارة ولكنها كانت تستخدم مفهوم القيادة, وكانت لا تعي مفهوم المنافسة وانما اعتمدت علاقاتها علي مفهوم الصراع , لغياب االعدالة التي كانت بيد "القائد" او "الزعيم"]]]
وسنتناول في هذا الفصل ماهية المجتمع وخصائصه.
س: ما هو تعريف المجتمع: هو "مجموعة بشرية تعيش في منطقة مساحية معينة", وهو "مجموعة أفراد تربطهم علاقة ما معروفة لديهم و لها أثر دائم أو مؤقت في حياتهم و في علاقاتهم مع بعض وتستهدف التعايش السلمي الامن".
ومن التعريف يمكن ان نستنتج ان المجتمع ما هو الا مجموعة من السلوك البشري المرتبط بعلاقة سلوكية تفاعلية خاضعة لشروط ما ومرتبطة ببيئة مكانية ما, تستهدف منفعة وسعادة الجميع (المجتمع) وتدفع وتصد الالم والضرر, ويمكن ان نستنتج ايضا ان الرابط بين افراد المجتمع اقوي من الرابط السلوكي بين كل فرد وذاته, فاذا حاول اي فرد مخالفت هذا الرابط الاجتماعي, فاما ان ينفصل عنه في حالة نجاحة واما ان يفشل لقوة هذا الرابط, وبالتالي نشأت لدينا رابطة سلوكية جديدة يتفاعل معها السلوك الانساني الذي تحدثنا عنه في الفصل السابق يتأثر بها بقوة "مجتمع" ويؤثر فيها بقوة "فرد", وقد اشرنا لهذه الرابطة كعقيدة اجتماعية تحكم سلوك الانسان.
ويمكن القول بان "المجتمع" هو كيان اعتباري حي, له سلوك يمكن دراسته وتفهمه, فما هي طبيعة هذا "السلوك المجتمعي"؟
لقد عرفنا من قبل ما هو السلوك الذاتي وما هو السلوك الاجتماعي, وعرفنا ان السلوك الاجتماعي, هو ذلك السلوك الذي يمارسة الانسان تحت ضغط القيود الاجتماعية لمحدد وضابط له, وبالتالي فالسلوك الاجتماعي هو سلوك الانسان نفسه, اما "السلوك المجتمعي" فهو سلوك الكيان المجتمعي ككل في ممارسة استجابة او تأثير في البيئة المحيطة او المجتمعات الاخري, وبمعني اخر هو محصلة سلوك كل افرد المجتمع كل بحسب سلوكه و دوره الذي يمارسه وتعاونهم في تحقيق هدف المجتمع , فالمجتمع كا الانسان بالضبط له عقل الا انه عقل جمعي وله ارادة الا انها ارادة جمعية وله اهداف الا انها اهداف اجتماعية, وله جسد واعضاء وقدرة, تمثلها افراد المجتمع كل يودي مهمة بعينها, وان اختلفت اشكال تلك الاعضاء واعدادها الا انه يجب ان تتوافق مع الارادة العقلية الجمعية لتؤدي وظائفها , وتتكامل لاداء كل سلوك مستهدف, كما انه السلوك المجتمعي يسعي الي النمو والتطور والتعلم واكتساب الخبرات.
وبالتالي فالسلوك المجتمعي, كل نشاط اداري او قيادي او انساني يصدر من المجتمع, ويتدرج من اللاارادي الي الارادي, ومن البسيط الي المركب واعقد انواعه هو الامن القومي والانفتاح علي المجتمعات الاخري.
لقد اقتبسنا تعريف السلوك الانساني والبسناه للسلوك المجتمعي, لنتمكن من معاملته نموذجيا علي انه (كيان واحد مستقل ومتكامل وعاقل), ومن ثم نتتبع تكوين السلوك المجتمعي من لحظة ولادته, لنستنتج ميكانيزم نشاطه الطبيعي, بصرف النظر عن ظواهرة وتصنيفاته وحالاته الخاصة .
اذن لنتصور معا كيف بدأ السلوك المجتمعي بافتراض مثال تقريبي:
1. اجتمع عدد من السلوك الانساني (بشر) مختلفي الاهداف الشخصية, في مساحة من الارض, وبدلا من الصراع البدائي علي ملكيتها او الانتفاع بها, اتفقوا علي استغلالها مجتمعين لمنع اراقة الدماء.
2. انتقل السلوك الانساني لافراد هذه المجموعة, الي مرحلة تحديد بنود وشروط الاتفاق "المنطقية" الفطرية, التي يتوقع ان تمكنهم من التعايش السلمي والانتفاع من الارض, فكانت اول خطوات تحديد هذه البنود هي التعرف علي اهداف الجميع من هذا التعايش, فكان عدد الاهداف 100 مختلف لكل الافراد, وجد منهم 60 هدف مقبول من الجميع علي سبيل المثال, و40 هدف متفرقين مختلف عليهم ومنهم 10 هدف مرفوضين قطعيا من البعض, فاتفق الحضور علي ان تكون الاهداف ال60 هم اهداف المجتمع الاساسية التي يسعي لتحقيقها ويتعاون الجميع عليها ويساهم كل فرد بنصيب متساوي فيهم, وان 30 هدف هي اهداف شخصية مسموح بها, وتحقيقها مسؤلية الفرد الشخصية ومتاحة للجميع, ولا يحق لاي فرد مطالبة المجتمع بتحقيقها له ولا يحق للغير الاعتراض عليها, وان هناك 10 اهداف لا يجوز السعي لتحقيقهم بالنسبة للجميع ويجرم ويعاقب من يحاول تحقيقهم, وانتهي الاتفاق علي اهداف "المجتمع", متضمنة بالطبع ضمان السلام والامن والعدل عند الاختلاف, فهم اساس "التجمع".
3. انتقل الحضور لتحديد الواجبات, فكان اول شرط للجميع العدالة في توزيع الواجبات, فقاموا بالرجوع للاهداف وتحديد المجهود اليومي والشهري والخبرات والاعمال المختلفة لتحقيق كل الاهداف,وتحديد سعر ساعة العمل لكل مهنة, ومن ثم قاموا بالتعرف علي القدرات السلوكية المختلفة لجميع الافرد, وتخصيص واجب لكل فرد متساوي لواجب الفرد الاخر ومقدر بسعر ساعة العمل لكل مهنة, ومن اعترض علي وظيفته سئل عن اي قدرات اخري, فلم يجد فرضي, ومن اعترض علي اجمالي الدخل, سئل عن خبرات مهنة اخري فلم يجد فرضي, حتي رضي الجميع.
4. انتقل الجميع لتحديد الحقوق, فاتفق الجميع علي توزيع 70% من العائد بالتساوي علي الجميع, والاحتفاظ ب 30% من العائد لتطوير المجتمع.
5. انتقلوا بعد ذلك لتحديد نظام حل النزاعات والخلافات والدفاع ضد اي عدائيات تصادفهم, فالتفتوا الي ضرورة تحديد نظام القيادة والزعامة والتقاضي, فقرروا منطقيا الفصل بين "القائد" و "القاضي", بشرط الا يحق لمن تولي القضاء ان يتولي القيادة, حتي لا يكون منصبه وسيلة للقيادة, واشترطوا ان يكون القاضي احكمهم واعدلهم, فاختبروا من يري في نفسه القدرة في مسائل العدل والحكمة , حتي فاز افضل المتطوعين فتولي القضاء , ووضعوا نظام قيادي يختبر قدرات القوة للمتطوعين, ينتج عنه خمسة مرشحين ,علي ان يتم الاقتراع عليه من الجميع, ومن يحصل علي اعلي اصوات يكون القائد الذي له قوة وسلطة المجتمع لمدة سنة, لتنتقل القيادة للجميع, علي ان يختار معاون له, ولا يحق لهما التعدي علي حقوق اي فرد او استثنائه من واجباته, او تعديل بنود الاتفاق, لتنحصر مهمته القيادية في التنظيم والتخطيط للعمل ورقابة المخالفين وردعهم ورد الحقوق التي يحكم بها القاضي.
6. وهكذا ولد لدينا مجتمع, ولد بسلوك فطري (اتفاق تعاون وتكامل بين اعضائه) يسعي للتعايش والسعادة والسلام والاستقرار ودرء الالم, بدأ هذا المجتمع بالتعرض لمثير (الم الصراع والاختلاف) فاستجاب بالاتفاق, ومن ثم بدأ هذا المجتمع في استكشاف اعضائه وجسده والتعرف علي قدراتها ووظائفها, مستمتعا بالهدوء والسلام وبين الحين والاخر يلوح الاختلاف والصراع في الافق فيستعيد الاستجابة بالاتفاق, وحتي اكتملت روابط سلوكه المجتمع باكتمال "العقد المجتمعي" الذي احدث توازن عقلي حركي بين جميع الاعضاء, واصبح المجتمع قادرة علي التفاعل وممارسة النشاط الواحد المتكامل واكتساب خبرات جديدة لتطوير خبرته.
7. وهذا السلوك المجتمعي لا يتعارض ولا يوقف السلوك الذاتي او الاجتماعي, بل يدعمه ويدفعه ويساعده علي النمو, لانه ينمو معه.
8. يبدأ المجتمع في ممارسة سلوكه المجتمعي , ويدور في فلك السلوك , وتظهر مثيرات داخلية مختلفة (حاجات الافراد , مكونات البيئة وثرواتها, الم الاختلاف والصراع بين الافراد, نمو قدرات فرد من الافراد... الخ من الظواهر التي تمثل مثير للمجتمع) تستدعي الاستجابة المجتمعية , وينتج عن الاستجابة خبرات سلوكية مجتمعية تتضمن قيم لمفردات الظاهرة, تسجل في ذاكرة القائد والمجتمع, وتتكرر المثيرات وتتطور الخبرات وتتبدل وتتعدل القيم, الا انها هذه المرة مع التطور المعرفي تسجل في سجلات تصف الخبرة وتقيمها, في نفس الوقت الذي يريد فيه ارادية اثارة البيئة المحيطة بفعل استكشافي او تجريبي او استخدام خبراته السابقة كمثير للبيئة ومكوناتها, وينتظر الاستجابة , فيكتسب خبرات جديدة وروابط جديدة وقيم جديدة, منها السلبية ومنها الايجابية, والتي تسجل ايضا في سجلات المجتمع كذاكرة.
9. ونتيجة لتكرار ممارسة السلوك المجتمعي وتأكيد الخبرات والقيم السلوكية, تتكون مبادئ بعضها يتفق والعقد الاجتماعي, وبعضها يعدل في العقد الاجتماعي, الذي يكون قد تقادم بمرور الزمن, وحتي يستقر العقد الاجتماعي والذي يمثل "العقيدة المجتمعية" باتجاهات اربعة وهم "المجتمعية" و "السياسية" و"العلمية" و "الاقتصادية".
10. انه سيناريو سلوكي بسيط لا يختلف عن السيناريو السلوكي الانساني, ويمكن ان نحدد له شخصية كما نحدد للسلوك الانساني شخصية, الا انه يتضمن مكونات مستقلة عاقلة قادرة علي التغيير السريع والمستمر في سلوكها وقدراتها وقادرة علي مخالفة اوامر العقل المجتمعي ولا يربطها بالوحدة المجتمعية الا عقد وقوانين ضبط وسيطرة, بينما في السلوك الانساني فمكوناته (اعضاء الجسد) لا تملك القدرة علي مخالفة الاوامر العقلية, وهذا الاختلاف وان كان يظهر بسيطا للوهلة الاولي الا انه شديد التعقد, وفي نفس الوقت ليس من المستحيل علاجه. والتأمل في هذا الاختلاف يثير سؤال عقلي منطقي بسيط "كيف نطابق نموذج السلوك الفردي علي نموذج السلوك المجتمعي, في وجود متغير مستقل عن نظام التحكم السلوكي ذو الارادة والقدرة علي الاختلاف؟" (كيف تتحكم في توجيه سيارة للامام اذا كانت كل عجلة منفصلة عن عجلة القيادة؟!) (كيف نجعل مكونات الوحدة المجتمعية كمكونات الجسد الواحد؟), واجابة السؤال التي اعتقدها منطقية وبسيطة هي توجيه وتدريب واجبار اعضاء المجتمع علي طاعة "العقل المجتمعي",عن طريق, استبدال نظام التحكم والضبط العقلي العصبي لسلوك ووظائف الاعضاء (الجسد) الموجود في نموذج السلوك الفردي, بنظام تحكم وضبط وسيطرة خارجي علي سلوك ووظائف الاعضاء (الافراد) في نموذج السلوك المجتمعي (اي قوانين تستهدف سعادة وهدوء الاعضاء والمكونات الجسد , بعلاقة لا تفترض قدرة اعضاء الجسد علي تحمل الالم دون الحاح في الشكوي وخروج عن حد الاعتدال في وقت لا يعمل فيه العقل علي علاج مشكلتها!), الا ان هذه الاجابة الافتراضية قد تنجح في حالة سلوك الافراد الارادي علي المخالفة, فماذا عن المخالفة اللاارادية والفشل في اداء الوظائف والسلوك الاجتماعي؟, وقد يكون علاج تلك الاخيرة في التعليم والتدريب والمتابعة والاشراف التي تتضمنها وظائف القيادة لتقليل اثرها, بالطبع تلك الاسئلة وهذه الاجابات ساذجة او رومانسية وان كانت صحيحة فهي في حقيقة الامر عمليات تنظيمية وادارية معقدة مئات المرات ومركبة ولا يمكن اختصارها في كلمتين (فهي تعني الانتقال من نظام ضبط وسيطرة فطري الي نظام ضبط وسيطرة تنظيمي), الا ان الغرض من تبسيطها هنا هو اظهار التشابة والاختلاف بين مصطلح "سلوك" في حالة السلوك الفردي والمجتمعي , والاشارة الي الاليات المنطقية لعلاج هذا الفرق ليكون "المجتمع" وحدة واحدة ذاتية الارادة والعقل وله شخصية, وبالتالي يمكن للعقل والقارئ قبول نظرية ايجاد نموذج امثل له, ليس بمفهوم المدينة فاضلة والاحلام الوردية كما يظن البعض, فالنموذج السلوكي الامثل الذي نشير اليه ونفترضه, لا يعني ان صاحبه, هو الافضل او الاقوي او الاغني او الاسعد او الغير قابل للفشل.

في السيناريو السلوكي السابق, عرضنا صورة بدائية بسيطة لتكوين السلوك المجتمعي ووضحنا ان نموذجه يتشابه مع السلوك الانساني الفردي مع وجود بعض الاختلافات التي تستدعي من المجتمع, تنظيم بعض الاليات البديلة للقيام بوظائف اساسية فطرية في السلوك الفردي حتي يتسم السلوك المجتمعي بالوحدة والتكامل والتوافق والانضباط الذاتي وتكون له شخصية (وهذا لا يتعارض مع وجود الفشل والنجاح والخير والشر), وهذا ما سنحاول التعرض له (اليات تنظيم المجتمع) بقدر من تفاصيل الرؤية لاحقا.
وما ينطبق علي السلوك الفردي ينطبق علي السلوك المجتمعي, فهو متعلم ويعتمد علي اكتساب الخبرات, واكتساب الخبرات اما يكون عشوائيا او يكون مخطط ومنظم, وباختلاف طريقة اكتساب الخبرات تختلف الشخصية وتتدرج من شخصية عشوائية صدفية لا يمكن توقع محتوي خبراتها (سلبي او ايجابي) ولا توقع نجاح سلوكها المستقبلي, او شخصية متعلمة معلوم محتوي خبراتها ويمكن توقع سلوكها المستقبلي, ليكون محور التعليم والتعلم ركيزة ومحدد رئيسي لاي شخصية فردية او مجتمعية .
ونستنتج نظريا مما سبق ان "السلوك المجتمعي هو متوسط محصلة سلوك افراده وخبراتهم", وان "الشخصية المجتمعية هي متوسط الصفات الشخصية الشائعة في افراد المجتمع".
وسواء فضل البعض تسميتها الثقافة المجتمعية او الشخصية المجتمعية , فليست محل النقد والاختلاف هنا فالعبرة بما يستوعبه القارئ من مدلول المصطلحات وليس بدقة اللغة التي لا انكر اهميتها, وان كنت افضل تسميتها بالشخصية والسلوك المجتمعي لانها اكثر تجرد من الثقافة المجتمعية, فالثقافة تشير الي كل الخبرات المعرفية الموجودة في المجتمع والتي يمكن ان تتحول لسلوك وان لم تتحول الي سلوك واقع, فاذا اعتبرنا ان كل معرفة "ثقافة" وكل ثقافة "سلوك" نكون افسدنا الروابط الصحيحة بينهم , بالضبط وكأننا خلطنا بين السلوك الذاتي والسلوك الاجتماعي والسلوك المجتمعي, رغم الفارق الكبير والجوهري بينهم.
وكما اشرنا من قبل ان هناك اليات تنظيمية اساسية عامة تمكنا من التعامل مع المجتمع كوحدة سلوكية, مرتبطة بضبط السلوك وتشكيله, ولا علاقة لها بالظواهر والفروق الفردية الخاصة, سواء بالنسبة للاشخاص اوالبيئية, فهي اليات تنظيمية اساسية موجودة في كل المجتمعات بمنطقها الفطري, سواء كان مجتمع غني او فقير او قوي او ضعيف او متخلف او متحضر...الخ, وبالتالي فحديثنا في هذا الفصل مرتبط بالسلوك وليس بالادارة التي ياتي دورها التنظيمي بعد ذلك في علاج الفروق الفردية والظواهر وتعديل القيم والخبرات والاتجاهات, مستهدفة حسن ادارة الموارد والرفاهية والافضل علي طول الخط .
سنستعرض فيما يلي بعض المفاهيم المجتمعية:

اولا: الادوار الاجتماعية:
الفرد هو المكون الرئيسي والعام لاي مجتمع, ويتصف سلوك الفرد بصفة عامة, بالغرائزية والذاتية والانانية واتباع هوى النفس وحب البقاء والدفاعية والنزعة للمنفعة الاجتماعية , كما يتصف بالقدرة علي التحكم والسيطرة وضبط سلوكه اراديا وتوجيهه, والاختيار والتفضيل بين البدائل المدركة, وفق لخبراته المكتسبة من التفاعل الاجتماعي. ولا يمكن لاي مجتمع تغافل صفات السلوك الانساني, والا الغي الرقابة والقوانين وساد السلام والامن العالم المجتمعي. 
الفرد هو اساس المجتمع, ولا يمكن للمجتمع تحقيق اهدافه, الا بتفاعل وتعاون ومساعدة افراده بعضها البعض والمجتمع يستمد قوته وقدراته وحركته وحياته من اللافراد, فهم مصادر قوتة ويده العاملة وخبرته, وحركة افراد المجتمع وانتاجهم وتأثيرهم فيه وتأثرهم به تتم من خلال مواقف "التفاعل المجتمعي" المختلفة, والتي يكون فيها لكل فرد "دور" محدد بقواعد ومعايير تهدف الي نمو الافراد والمجتمع معا, ونتيجة لهذا التفاعل يتوقع المجتمع من كل فرد القيام بعمل او مهمة او وظيفة او دور, للمشاركة في تحقيق هذا الهدف المجتمعي, ويحدد المجتمع لجميع افراده السلوك المناسب والمتوقع لاداء هذا الدور, في شكل واجبات يلتزم الفرد بادائها وفق لمعايير الاداء المتوقع من المجتمع, بصرف النظر عن دوافعه ورغباته الشخصية وسلوكه الذاتي, ويعتبر اي سلوك للافراد مخالف, في حالة عدم الالتزام بالمعايير او اهمالها وعدم تحمل مسؤليتها بضبط سلوكه الفردي معها.
يحدد المجتمع شروط هذه "الادور الاجتماعية" وطبيعتها وعيوبها ومميزاتها المتوقعة, ويوفر لافراده جميع البيانات والمساعدات اللازمة للتوقع الصحيح ونجاح هذا الدور الاجتماعي, والذي يترتب علي نجاحة, نمو ونجاح المجتمع ككل وتحقيق الاهداف المجتمعية, كلما زاد عدد الافراد الناجحين والمحققين لتوقعات المجتمع.
وفي سبيل تحقيق النجاح في ممارسة الافراد لادوارهم الاجتماعية, يقوم المجتمع بتاهيل افراده بجميع الوسائل الممكنة قبل اداء الدور, واكسابهم الخبرات السلوكية اللازمة لممارسة الدور الاجتماعي, وتقديم المساعدات اللازمة اثناء القيام بالدور وحل مشاكله, وتقديم التقدير المناسب بعد النجاح لتعزيز الدافعية علي ممارسة السلوك الاجتماعي واعلاء قيمته النفعية فوق السلوك الذاتي, ويعد التجاوز عن التقصيير من قبل الافراد في القيام بهذه الادوار, مساهمة في زيادة قوى الجذب السلبية للمجتمع في طريق الضعف والتفكك ووالمقامرة بتحقيق الاهداف المجتمعية.
وبصرف النظر عن قيمة هذا الدور في المجتمع, سواء رئيسي او ثانوي, الا انه ان كان مخطط فله هدف يتكامل مع غيره من الادوار ويؤدي وظيفة ومهمة, وان لم يكن مخطط فله اثر وخبرة, ان كانت سلبية يجب علاجها قبل ان تتحول بالتقليد الي ظاهرة, وان كانت ايجابية يجب تعزيزها واستغلالها مجتمعيا, وفي كل الاحوال ان لم يكتشف ويعالج تقصير الافراد في ممارسة سلوكهم الاجتماعي, كان هناك خلل وتقصير في القيادة المجتمعية, الا ان تلك المشكلة التنظيمية يعالجها ويبحث فيها علم الادارة والذي سنتعرض له فيما بعد.
يعتبر الدور الاجتماعي هو الشغل الشاغل للفرد والمجتمع فعليه تترتب الواجبات التي يحاسب عليها اجتماعيا, وكلما زاد عدد الادوار والوظائف والمهام زادت الواجبات والالتزامات, وارتفعت مكانة الفرد في المجتمع, وزاد تأثيره فيه, بالسلب والايجاب, وفق لما يحققه من نجاح في ممارساته لتلك الادوار, وكلما زاد معدل النجاح للفرد في ادواره الاجتماعية, كلما زاد معدل تأكيد قيمة تحمله للمسؤلية وزاد انتفاعة من المجتمع, علي اساس تبادل المنفعة المشترك, والعكس بالطبع صحيح.
ويمكن تقسيم الادوار الاجتماعية حسب الزمان والمكان والقيمة والتأثير الاجتماعي, الي اقسام متعددة نظر للكم الهائل من انواع تلك الادوار, الا ان التقسيم وفق لاثر الدور علي الاهداف المجتمعية والاهداف الفردية, قد يكون اوضح واقرب للتصور والمنفعة.
ويمكن تقسيم الادوار الاجتماعية, الي ادوار رئيسية وهي تتصف بالبعد الزمني والترتيب والاولوية و تحقق اهداف اجتمعية اساسية وادوار ثانوية تتصف بالبعد الزمني وتحقق اهداف اجتماعية اساسية وذاتية ثانوية, وادوار مصاحبة تحقق اهداف ذاتية
1. الادوار الاجتماعية الرئيسية:
وطبقا للتسلسل الزمنى بعد اكتمال نمو السلوك الارادي, يكون منها (الابن – الطالب – العامل – الزوج - الزوجة – الاب - الام – الرئيس – العالم - القائد – المرجع – المستشار- القاضي - المتقاعد - الكهل والعجوز – الواصي- الكفيل – الشاهد ...الخ) وهذه الادوار تتصف بالتأثير المباشر في المجتمع, سواء علي المدي القريب او المدي البعيد, ولذا يسعي المجتمع لتوفير كافة الامكانيات والوسائل المتاحة للتخطيط لها وتاهيل الافراد لها واعدادهم واكسابهم جميع الخبرات اللازمة لممارستها بنجاح ومساعداتهم, ويفرض المجتمع علي هذا الادوار, نظام رقابي مستمر ونشط وحازم وفعال, بهدف منع الافراد من الاهمال في ممارستها او عدم الالتزام بالمعايير السلوكية للدور, او الفشل, لحماية المجتمع من الاثار السلبية المباشرة الناتجة من الفشل,ويؤدي الفشل في السيطرة علي سلوك الافراد عند ممارسة هذه الادوار, الي اصابة المجتمع بالظواهر السلوكية الغير مرغوية, والتي ان استمرت ممارستها مدة طويلة تحولت الي مرض سلوكي, يغير ويعدل من "الشخصية الاجتماعية" .
والدور الرئيسي, هو دور يمارسه الفرد اساسا لتحقيق اهدافه الشخصية ومنفعته, ووفق لاختياره الارادي, وحسب درجة عضويته في المجتمع (سنتحدث عن العضوية الاجتماعية فيما بعد), الا انه دور اجتماعي مؤثر تأثير مباشر علي المجتمع, وكلما ارتقي الفرد به وطوره وحقق اعلي مستوي في الاداء, والمحافظة علي الواجبات وتحمل المسؤلية, حقق اكبر قدر ممكن من المنفعة والاهداف الشخصية لنفسه, وفي نفس الوقت ساهم في رقي المجتمع وتحقيق اهدافه باقل تكلفة ومجهود ووقت,كانت ستهلك في الرقابة وعلاج الاخطاء.
وكقاعدة عامة,في غيابة الرقابة, اذا تعارضت الاهداف الفردية والاجتماعية, لاي سبب من الاسباب, تكون الغلبة لاهداف الفرد الشخصية, الا في حالة وجود عقيدة اجتماعية قوية تسيطر علي سلوك الفرد الذاتي, ولان "العقيدة الانسانية" كامنة غير ظاهر او مراقبة او معيارية, ولا يعلم محتواها الا الشخص نفسه, فلا يملك المجتمع الاعتماد عليها كاداة لضبط السلوك, وان كانت توضع في الحسبان لتقويتها لتقليل خسائرها وانحرافها وليس لرقابة السلوك وضبطه.
ولاهمية الادوار الاجتماعية في التنظيم المجتمعي, يجب علي المجتمع عدم السماح للافراد بممارسة الادوار الاجتماعية, الا بعد التأكد من تأهيلهم واكتسابهم للخبرة المطلوبة لممارسة الدور, باي صورة من صورالاختبار والتقييم, لانه بطبيعة الحال ووفق للطبيعة الفردانية وحب الذات التي لا يمكن ضمان تحكم تحكم الفرد ذاتيا فيهما, قد يلجاء الفرد تلقائيا لممارسة الدور الاجتماعي, بدافعية ذاتية لتحقيق رغباته واهدافه الشخصية, حتي وان كان يعلم بعدم اكتسابه المهاره المطلوبة وعدم قدرته علي ممارسة الدور, علي امل اكتساب هذه المهارة مع الزمن بالممارسة والاحتكاك والتجريب, وعلي امل عدم اكتشاف امره, او بدافع المغامرة وحساب قدرته الشخصية علي تحمل الخسائر والنتائج المترتبه علي فشله في الدور, دون تقدير للخسائر الاجتماعية, التي تكون اكبر بكثير وغير منظورة او محسوبة ماديا علي المدي القريب في معظم الاحوال, فعلي سبيل المثال, ان حالة فشل الزواج في اسرة واحدة في المجتمع, قد تؤدي الي اضافة عدد من الابناء حرموا من الرعاية الاسرية المستقرة, ويتأثر سلوكهم الشخصي سلبيا, ويفقدوا التنشئة الاجتماعية الصحيحة الازم لنمو سلوكهم, ومن ثم ينتج عنها بعد 20 سنة ثلاثة اسر, تفشل في ممارسة الادوار الاجتماعية لعدم التأهيل, اذا لم يقم المجتمع باعادة تأهيلهم, التي تتطلب مجهود وتكلفة ووقت مضاف للاعباء المجتمعية, وفي نفس الوقت قد تؤدى هذا الفشل الي اهمال الزوج والزوجة لادوارهم الاجتماعية الاخري, لبعض الوقت حتي تمر الازمة, وقد تؤدي الي العداء والصراع بين عائلتين, وانشغال عدد من رجال الامن والقضاء لحل هذا النزاع, وقد تتعرض المصالح العامة للتعطيل والاهمال ولو غير مقصود, اذا كان احد الزوجين موظف ومسؤل عن خدمة ما.
هذا المثل يوضح الرابط بين سلوك الفرد وسلوك المجتمع, وهو ناتج متوقع طبيعي من حالة الفشل الفردي في اي مجتمع ولو بنسبة, وكلما حرص المجتمع علي خفض هذه النسبة, لتكون 1% بدلا من 10% علي سبيل المثال, كان افضل للمجتمع , وهذا الانخفاض هو ناتج عن الاهتمام بالفرد والادوار الاجتماعية والتأهيل للدور الاجتماعي
وبالتالي يمكن استنتاج الاتي: "اذا تمكن مجتمع من تأهيل افراده لادوارهم الاجتماعية الاساسية بطريقة علمية منهجية منضبطة, متضمنة مهارة الاختيار والتفضيل والاتصال والتعبير عن العواطف, ومارس المجتمع نظام ضبط اجتماعي علمي وحازم وعادل متضمن عنصر الرقابة, انخفض معدل الفشل في ممارسة الدور, وزاد معدل النمو والرقي وتحقيق الاهداف, وقل معدل الانحراف السلوكى والامراض السلوكية والاجتماعية, وحافظ المجتمع علي صفاته السلوكية المرغوبة, من التعديل او التغيير الا بما يتفق مع تطوره ومراحل نموه الايجابية الافضل.
2. الادوار الاجتماعية الثانوية:
وطبقا للتسلسل الزمنى بعد اكتمال نمو السلوك الارادي, يكون منها ( الاخ - الاخت – الصديق – القريب – الجار – الزميل – الرفيق في العمل – المتطوع للخدمة – البائع – المالك...الخ ) وهذه الادوار تتصف بتحقيق اهداف فردية اساسية للافراد, من خلال حاجتهم للتعاملهم المباشر مع بعضهم البعض لتحقيق منفعة خاصة, ويقل تأثيرها علي المجتمع , طالما وجد نظام ضبط اجتماعي عادل وحازم قادر علي المحافظة علي حقوق افراده وفض النزاعات التي قد تنشا بينهم سلميا, وقد تترك معايير وشروط ممارسة الدور وطبيعته للافراد انفسهم لتحديدها, وفق لشروط تعاقدية (روابط) تحدد الحقوق والواجبات لكل منهم دون قيد مجتمعي عليهم, الا ان هذه الادوار الثانوية تؤثر علي السلوك المجتمعي اذا ما تعارضت اهداف العلاقة مع اهداف المجتمع, كأن يتفق اثنان علي علاقة تضر بحق المجتمع كبيع ارض لا يملكونها او جريمة ما, وكذا تؤثر في المجتمع اذا ما تعارضت اهداف وسلوك اصحاب هذا الدور مع بعضها البعض, وينتج عن ذلك النزاعات والصراعات وقد يغتصب حق من حقوق الافراد داخل المجتمع, ويتعارض ذلك مع اهداف المجتمع التي هي حماية حقوق افراده, ويجبر المجتمع علي الاستجابة لهذا النزع كمثير للالم الداخلي, ولذا يلجاء المجتمع لوضع ضوابط عامة لمثل هذه الادوار الثانوية ولا يلتزم بمراقبتها بقدر ما يلتزم بالاستجابة لعلاج مشاكلها ومخالفاتها, ويتحمل اطراف العلاقة مسؤلية الشكوي وطلب المساعدة من المجتمع, وايضا يلجأ المجتمع لنظام التأهيل الغير مباشر والنصح والارشاد, ويمارس قواعد ونظم الضبط والسيطرة علي سلوك الافراد, ويساعدهم لتحقيق اهدافهم الخاصة باعلي كفاءة ممكنة.
وللفرد في ممارسة هذا الدور حق الاختيار بين البدائل المتاحة والرفض وتحديد معايير الدور, وليس للمجتمع حق المراقبة او فرض سلوك معياري او سلطة في التدخل, الا بطلب من احدي الاطراف في حالة تعارض الحقوق والواجبات, ويجب ان يتصف هذا التدخل بالعدل والحياد التام بين الافراد والقدرة علي حماية الحقوق وردها, وضبط السلوك المخالف ومنع الاعتداء, وفق لمعايير العقد المتفق عليها ووفق للمعايير الاجتماعية المتوقعة والثقافات الموروثة.
3. الادوار الاجتماعية المصاحبة:
وتشمل تلك المجموعة كل الادوار التي يمارسها الفرد وفق لسلوكه الاجتماعي في جميع المواقف التفاعلية في تعاملاته الفردية خلال حياته اليومية, والتي تعود بالنفع او الخسارة علي الفرد نفسة, ويسعي الفرد ذاتيا لتحسين اداؤه فيها لتحقيق اكبر منفعة ممكنة منها مثل ( السائق عدا الوظيفة – المتسوق – المؤجر – المستخدم للطريق العام– عابر السبيل – المستخدم للخدمة العامة...الخ ) وهذه الادوار تعود بالنفع علي الفرد في نفسه وله كامل الحق في ممارستها طبقا لرغباته الخاصة واهدافه الفردية, ووفق للقواعد المتفق عليها والمعايير الاجتماعية السلوكة المفروضة والتي تحدد سلوكه الاجتماعي, وهو مسؤل عن تعلم مهارتها بالوسائل الذاتية, سواء بالتعلم والتقليد والمحاكاة والتجريب او بالتعليم المنظم, ويراقب الفرد سلوكه ذاتيا ويراقبه الاخرين, ويتعرض لعقوبات اذا ما تسبب في خسائر او تلف او خلل للسلوك المجتمعي, اقله الرفض الاجتماعي, الذي لا يتركه لاستكمال الانتفاع بمخالفته. وهذا النوع من الادوار لا يؤثر علي السلوك المجتمعي ككل, طالما تم ممارسته وفق للقواعد والمعايير الاجتماعية, ولذا يكتفي المجتمع في اغلب الاحيان بفرض المراقبة الضابطة لهذا النوع من الادوار, وفق لقواعد ثابتة يسهل الحكم الفوري فيها, اما بالمطابقة للمعايير والقواعد, فيتمتع الفرد بكامل الحرية في ممارسة الدور, واما مخالفة فيستحق العقوبة او الضبط السلوكى او العزل, والمجتمع غير مطالب في هذه المخالفات باعادة تأهيل المخالفين, وفي هذا النوع من الادوار يتشارك كل افرد المجتمع مع قيادته في واجب المراقبة وحق الشكوي والتبليغ عن المخالفة والضرر, وتحتفظ الدولة فقط بسلطة الضبط والمحاسبة للتقويم, وليس للانتفاع من وراء المخالفة.

ثانيا: الانحراف السلوكي عن المتوقع المجتمعي:
هو ممارسة اي من انواع السلوك المخالف للسلوك المجتمعي المتوقع من افراده, وهو الاختلاف بين السلوك الاجتماعي للفرد والسلوك المجتمعي للمجتمع, وهو غلبة الدافعية للممارسة السلوك الذاتي المخالف للسلوك الاجتماعي في موقف تفاعل اجتماعي, وهو ممارسة اي سلوك فردي يخالف العقيدة السلوكية الفردية او المجتمعية.
وبالتالي هناك نوعين من الانحراف السلوكي, احدهم علي مستوي الذات او الفرد, كأن يخالف الفرد معتقده الديني في سلوك ما ولم يتأثر بهذا الانحراف الا هو, فيسبب له الم وتوتر, وهو يدرك هذا الانحراف سواء كان اراديا او غير اراديا, وهو قادر علي ضبطه والسيطرة عليه, والنوع الاخر علي مستوي المجتمع, وهو ممارسة اي سلوك مرفوض اجتماعيا, وينتج عنه اثر في الاخرين, وقد يدركه الفرد او لا يدركه, الا انه ارادي وينتج عنه اكتساب خبرة ودافعية للتكرار في حالة نجاحه في تحقيق هدفه واشباع رغبة ما, وفي هذا النوع يفاضل الانسان بين اهدافه الذاتية والاهداف الاجتماعية, فتكون الغلبة للاهداف الذاتية, كان يكسر انسان علي عجل اشارة مرور, حيث الموقف التفاعلي اجتماعي يمارسه عدد من الافراد في نفس الوقت ونفس المكان ومرتبطين بعلاقة تنظيمية ما, ولكل فرد فيهم هدف شخصي, قد يتفق او يختلف مع الهدف الاجتماعي من ايجاد العلاقة, والمجتمع والموقف يتوقع من الجميع "الطاعة لهدف المجتمع", فان خالف احدهم السلوك المتوقع, يكون قد انحرف عن السلوك المجتمعي, اي اتصف سلوكه الاجتماعي بمخالفة السلوك المجتمعي في موقف تفاعلي مجتمعي ما, ويكون سببه الرئيسي اللحظي هو قرار الفرد الارادي بتفضيل اهدافه الشخصية عن الاهداف المجتمعية, فاستجابت حركته السلوكية لذلك القرار.
وبالتالي فالانحراف السلوكي له محددان, "سلوك ذاتي متوقع, وسلوك اجتماعي" يمارسهما نفس الشخص, ويحدد نوع الانحراف واثره بالمقارنه مع توقعان السخص او المجتمع (السلوك الفردي المتوقع ,السلوك المجتمعي المتوقع", فاما ان يكون الشخص قادر علي تعديل سلوكه وعلاج انحرافه, واما يكون فاقد للسيطر الذاتية علي السلوك اراديا او لا اراديا, بما يستدعي تدخل المجتمع للسيطرة علي سلوكه وضبطه.
ويمكن القول بان كل انحراف سلوكي, هو حالة شاذة عن المتوقع, ويلزمها تحليل سبب وحركة واثر, لدراستها وعلاجها,
والانحراف السلوكي عن المتوقع المجتمعي, لا يعني الصواب والخطأ, ولا يعني الخير والشر, ولا يعني الحق والباطل, فقد يكون لدينا مجتمع فاسد من المجرمين وقطاع الطرق, وتكون صفة السلوك المتوقع منهم (السلوك المجتمعي) هي السرقة كقاعدة عامة, فاذا انحرف احدهم عن هذا التوقع السلوكي والتزم الامانة, كان منحرف سلوكيا عن التوقع الاجتماعي واضر بمصلحة مجتمعة (الفاسد), وكذا اذا كان السلوك المجتمعي موصوف بالعشوائية وعدم احترام اشارات المرور, ومن ثم مارس احد الافراد سلوك يحترم اشارة المرور, وتوقف عند الاضاءة الحمراء, كان سلوكه منحرف عن التوقع المجتمعي, وقد يتسبب في حوادث وكوارث بفعل هذا الانحراف, فتوقفه الغير متوقع في اشارة المرور ومن خلفه لم يتوقعه, فاصتدم به, او توقف هو الاخر فجأة فتسبب في اصتدام القادمين خلفة, وبالتالي يجب التعامل مع هذا مصطلح الانحراف السلوكي مجردا, ومنسوب الي صفات السلوك المجتمعي الذي يقارن به او يحدث فيه.
وتأتي اهمية معرفة وتفهم "الانحراف السلوكي عن المتوقع", في انه اول خطوة لتكوين كل الظواهر والامراض السلوكية الاجتماعية والفردية, فالسلوك المنحرف عن المتوقع له هدف, وبتحقيق هدفه ومنفعتة والنجاح في الممارسه الامنة, تكتسب خبره ايجابية بالنسبة للفرد المخالف, وتنشأ دافعية وقيمة لتكراره واستدعائه كاستجابة مباشرة مع نفس المثير السلوكي او اي مثير مشابه, ومع التكرار تتأكد قيمة ايجابية لهذه الخبرة, وتتحول تدريجيا الي قيمة سلوكية مستهدفه ومبدأ سلوكي وصولا الي عقيدة سلوكية, رغم انها مخالفة للسلوك المجتمعي وتستدعي العقوبة.
اذا مارس الانسان سلوك منحرف عن التوقع الفردي والاجتماعي, سمي هذا السلوك "حالة انحراف سلوكي فردية" او يقال انحرف فلان عن السلوك المتوقع له, او يقول الانسان علي نفسه اخطأت وانحرفت عما اتوقع من سلوك. واذا كرر نفس الانسان نفس السلوك المنحرف عن المتوقع, سميت بوادر "ظاهرة سلوك فردية" تمثل انحراف للفرد عن المتوقع له, واذا انتظم تكرار نفس الانحراف السلوكي سميت "ظاهرة سلوكية فردية", فاذا لم يستطيع الفرد علاجها وضبط سلوكه, اعتبر الانحراف السلوكي "مرض سلوكي فردي" يستدعي مساعدة الغير, ويمكن وصف حالته بالادمان, الا ان هذا "المرض السلوكي الفردي", لا يمثل للمجتمع والسلوك المجتمعي, الا "حالة انحراف سلوكي مجتمعي", بمعني ان كل مكونات السلوك المجتمعي صحيحة الا هذه الحالة الفردية الشاذه, والتي لم تؤثر في باقي مفردات السلوك المجتمعي (افراد المجتمع), فما زالت تحت سيطرة المجتمع وينتظر المجتمع طلب المساعدة من هذا الفرد المريض لعلاجه وضبط سلوكه.
وكما اشرنا من قبل, فكل الخبرات السلوكية السلبية والايجابية منها, تنتقل بين الناس في المجتمعات من خلال عملية اساسية تربطهم وهي "مواقف التفاعل الجتماعي", عن طريق غريزة التعلم بالتقليد والتلقين والمحاكاة والتأثير والتأثر, ومن ثم فممارسة اي فرد في المجتمع لسلوك غير مرغوب او منحرف عن التوقع الاجتماعي واكتسابه خبره ايجابية ما مرتبطة بهذا السلوك, تنتقل بين افراد المجتمع, كل بحسب حاجتة ورغبته, فمنهم من يقبل الخبرة ومنهم من يرفضها, الا انها تبدأ في الانتشار.
وعندما يتمكن الفرد المنحرف سلوكيا من التأثير في باقي افراد المجتمع, وينقل اليهم نقل خبرات الانحراف السلوكي, ومن ثم تكرر ممارسة هذا الانحراف السلوكي بين عدد ما من افراد المجتمع, يتحول الانحراف السلوكي الفردي الي انحراف سلوكي مجتمعي يستدعي التدخل المجتمعي الفوري لعلاج مشكلته وضبط سلوكه, ولا يعامل معاملة الحالة شاذة (فالحالة الشاذة المهملة لا تملك حركة ولا اثر في باقي مكونات المجتمع), واذا تكرر نفس الانحراف السلوكي المجتمعي بواسطة نفس الافراد سمي ظاهرة مجتمعية مرتبطة بانحراف سلوكي, سواء كان التكرار مصحوب بزيادة عدد مفردات الظاهرة او مقتصر علي عدد مرات التكرار, وبالطبع لا يمكن اعتبارها حالة شاذة ولا فردية, مما يستوجب التدخل الفوري العلمي لدراسة وتحليل الظاهرة وعدم الاعتماد علي القوانين والاعراف التقليدية لعلاجها, والحرص من تحولها الي مرض سلوكي مجتمعي.
فكما تمكن المرض السلوكي الفردي, من الشخص المدمن وافقده السيطرة علي سلوكه وعدل من شخصيته ودفع البعض الي طلب المساعدة "الخارجية" لعلاجه, والبعض الاخر يستسلم لتعديل سلوكه وشخصيته, بالمثل سيتمكن المرض السلوكي المجتمعي من افقاد المجتمع السيطرة علي سلوكه وسيعدل من الشخصية المجتمعية, ويدفعها لا اراديا الي طلب المساعدة الخارجية او الاستسلام للمرض وتقنينه والاقرار بالصفات السلوكية الجديدة, تلك الصفات والسلوكيات الجديدة التي منها ما هو مدمر للمجتمع ذاتيا.
وبصفة عامة فسبب الانحراف السلوكى الذي يبدأ دائما من فرد واحد وينتقل الي مجتمع ويؤثر في شخصيته, هو وجود مثير غريزي قوي يستدعي استجابة الفرد في موقف تفاعل اجتماعي ما, في وجود تعارض مؤقت او دائم بين هدف الفرد من الاستجابة (سلوكه الذاتي) والاهداف المجتمعية (سلوكه الاجتماعي وسيطرته علي تحديد نوع الاستجابة), وفي بعض الحالات تكون قوة المثير وقوة الذاتية وضعف الاجتماعية, دافع لتغليب الاهداف الفردية فيختار الفرد اراديا سلوك ذاتي مخاف لقوانين السلوك المجتمعي, وينتج عن هذه التجربة الجديدة وخبرتها نجاح او فشل في تحقيق هدف شخصي لم يكن الفرد قادر علي تحقيقة او تجربته في اطار مجتمعي.
عندما يمارس اي فرد انحراف سلوكي عن المتوقع الاجتماعي, يكون العلم والجهل بماهية السلوك المجتمعي والتي تشكل عقيدة الفرد الاجتماعية, احد مسببات هذا الانحراف, فالبعض يمارس الانحراف السلوكي وهو يجهل مخالفته لان عقيدته الاجتماعية العقلية ادركت الاستجابة علي انها متوافقة والعقيدة الاجتماعية التي اكتسبتها, والبعض يعلم بان هذا الانحراف السلوكي مخالف للعقيدة الاجتماعية العقلية التي اكتسبها, وهذا الاختلاف يؤثر في طبيعة ممارسة الانحراف السلوكي وخبراته, فنجد الجاهل يمارس مخالفته السلوكية علنا ولا يخشي من العقوبة ويجادل المعترض لاثبات حقه ولا يوجد لديه دافع للكذب, بينما العالم يمارسها سرا ولا يجادل المعترض ولديه دافع للكذب خوفا من العقوبة ولو رفض اجتماعي, والفرق بين الحالتين يظهر ويوضح دور "الادارة المجتمعية" في تعزيز ونجاح الانحراف السلوكي.

ففي الحالة الاولي حالة الممارسة العلنية, اذا توافر للمجتمع نظام اداري صحيح يتضمن عنصر رقابة وتقويم علمي, تمكن من اكتشاف الانحراف المعلن وتوجب عليه التدخل لتصحيح عقيدة المخالف العقلية, والتي بتقويمها قد تنتهي مشكلة الحالة, وتوقفت الممارسة المنحرفة وفشل الفرد في تحقيق هدفه منها وتحولت الي خبرة سلبية, من اول تجريب لها وقبل ان تترتب عليها مشاكل اخري او خسائر مادية, كان يظن انسان ان من حقه مخالفة شروط البناء والارتفاع بدون ترخيص لان المباني من حوله عالية, فيقوم بالتعلية قبل الحصول علي ترخيص, فاذا تم اكتشاف المخالفة او الانحراف السلوكي وتقويم العقيدة الاجتماعية العقلية للمخالف, فور شروعه في ممارسة هذا السلوك, منع وتم تصحيح سلوكه ولم يترتب علي هذا الانحراف ضرر مادي سواء غرامه او ازالة لما تم بنائه, وبالتالي هذا المثال تمت ممارسته علنيا اعتقاد من صاحبه انه علي صواب وحق, لتقع مسؤلية ضبطه وعلاجه والسيطرة عليه, علي عاتق المجتمع, فاذا تمكن مثل هذا الانحراف العلني من تحقيق اهدافه واستكمال ممارسته, كان هناك مؤشر خطير علي فساد العقل المجتمعي والادارة.

اما الحالة الثانية حالة الممارسة السرية, فهي ايضا متوقعه وفق لخصائص السلوك الانساني, الا ان مسؤليته يتحملها "المخالف" حتي تظهر لعين المجتمع ويستشعرها, ليشاركه العقل المجتمعي (الادارة) في مسؤليتها واثرها, وهي حالة سلوكية لها طابع خاص ومميز, تتشارك جميعها في صفة الكذب بدافع الخوف او الخجل, فمن يمارس سلوكها يعلم انه "مخالف" يستحق العقوبة او يوصم بنقيصه, فيبدأ هذا المنحرف سلوكيا دائما في ممارسة سلوكه المنحرف سرا, سواء لتحقيق هدف او تجريب استجابة ما لمثير غريزي ما ولا يجد له اشباع اجتماعي مناسب, ومع بدء الممارسة السلوكية المنحرفة عن التوقع المجتمعي, يكتسب هذا الفرد خبرة سلوكية تحقق اشباع غريزي او حاجة ومنفعة ما, ويقيم نتائج الخبرة ومفرداتها, التي تكون اما ايجابية او سلبية او نجاح او فشل, وفي حالة النتيجة السلبية الفاشلة, يتوقف الدافع للتكرار الا لتأكيد الفشل, الذي ان تأكد يحدث انطفاء ذاتي للخبرة ورفضها اذا استدعتها الذاكرة مرة اخري, اما في حالة نجاح الفرد في اكتساب خبرة ناجحة وايجابية (بالنسبة لهدفه الشخصي) من ممارسة انحراف سلوكي ما, تمكن من خلاله اشباع رغبة وتحقيق هدف شخصي بامان وسلام, تحولت هذا الخبره الي قيمة سلوكية, يتم استدعائها كلما ظهر مثر غريزي او حاجة لم يجد لها هذا الفرد ما يشبعها في اطار اجتماعي, فتتكرر الممارسة وكلما تأكدت ايجابية نتيجة الممارسة كلما تحولت الي مبدأ سلوكي وعقيدة سلوكية اجتماعية , تمكن الفرد من تحقيق اهدافه ورغباته في اطار مجتمعه بيسر وسلامة وامان .
وهنا يكون هذا الفرد اكتشف طريقة وخبرة جديدة للتحايل علي السلوك المجتمعي وكسر قيوده, وبالتكرار الفردي اصبح هذا الفرد سرا خبير في هذا السلوك ويعتقد انه سلوك خير لانه يمكنه من تحقيق اهدافه الانتفاعية, والانسان بطبيعته الذاتية والانتفاعية ينزع الي التميز الاجتماعي والذي يحققه بزيادة رقعه تبادل المنفعة, كما ان احد اهدافه الاجتماعية هي الشعور بالقوة بدعم الاخرين له, ولهذا يتجه الانسان تلقائيا الي نقل خبراته السلوكية المنحرفة الي دائرته الاجتماعية القريبة والمأمونة (الاسرة والاصدقاء والاقارب والجيران والمعارف والزملاء...الخ) , ليحصل علي تميزه ودعمه وقوته ويتغلب علي شعوره بالاغتراب الاجتماعي بمشاركة الاخرين لسلوكه الشخصي, فيبأ هذا الانسان, بترقب واستكشاف حاجات واهداف دائرته الاجتماعية, حتي يجد احدهم له هدف مماثل لموضوع خبرته ولا يجد اطار اجتماعي لتحقيق هدفه ليكون مستهدف لنقل هذه الخبرة (الانحراف السلوكي), فينقل اليه خبرته بالتقليد والتلقين والتعليم المباشر سرا, وبذلك ينتقل الانحراف السلوكي من فرد الي اخر ويتكرر وتتسع رقعته, سرا وبعيد عن اعين الرقابة والتقويم المجتمعي, ليشكل ظاهرة اجتماعية.

وعندما تتسع دائرة ممارسة الانحراف السلوكي ويزيد عددها ونسبتها في اي مجتمع, تتكون بينهم روابط وقد تنظم صفوف تلك الروابط ولو سرا, ويكتسب افرادها نوع من انواع القوة التي تدفعهم الي اخراج سلوكهم المنحرف الي العلن, دون الخوف من العقوبة المجتمعية, التي هي في الاساس عقوبة للافراد وليست للجماعات, وبصرف النظر عن قوة الافراد او مقارنة نسبيتهم العددية مع نسبة معارضيهم في المجتمع, الا انها قد تصل الي نسبة معتبرة لا يملك المجتمع اعلان الحرب عليهم ولا عزلهم الاجتماعي, ويجبر في كثير من الاحيان علي تقنين اوضاعهم , ليتحول الانحراف السلوكي الي عقيدة مجتمعية غيرت من صفات الشخصية المجتمعية, بغير ارادة او تخطيط من العقل المجتمعي.